مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة، بدا في الفترة الأخيرة متحيزاً أو متخففاً، تحيز – في حسباني – لأمسيات الشعر الشعبي وتخفف من أمسيات الشعر الفصيح. جعل أمسيات الشعر الشعبي ذات طابع بروتوكولي، لقد آواها، فيما ترك أمسيات الشعر الفصيح مشعثة في وحشة مباني الأندية الأدبية، فهو قد تخفف منها أو تركها معلقة إلى حين، ما عدا الأمسية الشعرية الأولى. وهذا يعني أن الأندية الأدبية قد تحولت إلى حاضنة لأمسيات الشعر الفصيح ضمن نشاطات المهرجان الذي ما كان مهرجاناً عابراً أو قليل القيمة. هذا يعني – أيضاً- أن الاكتناز الثقافي للمهرجان قد (فُتِت) من حيث ظن القائمون على النشاط الثقافي فيه أنهم يقسمون (عقول الشعراء) على الطالبين والراغبين وأنهم يقسمون (أشعارهم) على المريدين الزاحفين إلى فراغ القاعات، قاعات الأندية طبعاً، وهذا -في ظني- تغييب لشخصيات الشعراء واعتبارهم الثقافي، وهو فوق هذا تضييق إعلامي على الأمسيات الشعرية التي عمل القائمون على النشاط الثقافي للمهرجان باختيار الأسماء الشعرية التي ستشارك فيها. وهي مسألة عجيبة، أن نعطي ثم نمنع أو نضيق، وأنا أعلم أن النية لم تتوجه إلى المنع أو التضييق، أبداً، ولكن وجهات النظر تتفاوت، وهي اجتهادات إدارية، ليست ثقافية. والذي أكتبه -أنا الآن- هو في الواقع وجهة نظر أيضاً، لكني أكتبها بحس المراقب الذي ينظر إلى هذا المهرجان الثقافي الكبير بعين (المُكْبر) وينظر إليه أيضاً بوصفه (حدثاً ثقافياً تراثياً متماسكاً) يشبه الكتلة الواحدة، أي أنه كتلة معنوية معرفية مميزة في المكان والزمان وفي قيمة ضيوفه ومرتاديه أيضاً. ولذلك فتشعيث بعض نشاطاته بأي صورة، مثل توزيع أمسيات الشعر الفصيح في الأندية الأدبية، لا يعدو كونه نزعاً لها من كتلتها المعنوية المعرفية الأصل، وهو تقليل – في نظري – لفرصتها في الحضور أو الإشارة الثقافية المعتبرة. ليس هناك مبرر -من وجهة نظري مرة ثانية- لمثل هذا، الأندية الأدبية لا تعمل تحت مظلة المهرجان، وحتى فكرة الاستضافة الثقافية في هذه الأمسيات الشعرية تبدو خلطاً ينزع من تلك الأمسيات نكهتها الخاصة، باعتبارها أمسيات ثقافية احتفالية بشعراء مميزين ضمن نشاطات مهرجان سنوي كبير، تجذر تاريخه في المكان. هل كانت ستضيق قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بتلك الأمسيات؟ أو هل كانت ستضيق قاعات فندق الماريوت بها؟ وماذا كان على المهرجان لو استضاف تلك الأمسيات بشعرائها في الرياض، حيث هو، وتمت جدولتها بطريقة مناسبة؟؟ ماذا يعني أن نقيم مجموعة من الأمسيات الشعرية في ليلة واحدة، في أكثر من ناد أدبي، وفي أكثر من مدينة؟ وفي المشاركين شعراء ضيوف أيضاً من خارج المملكة؟ إنني أظن أن وعينا قد انفك عن إدراك معنى مهرجان الجنادرية ومعنى أن يستضيف هذا المهرجان الثقافي الكبير مفكراً أو أديباً أو إعلامياً أو شاعراً فصيحاً أو شعبياً. هذا الذي حدث وشُتتت فيه أمسيات الشعر الفصيح – ماعدا الأمسية الرئيسة الأولى -، أقول : شُتتت في قاعات الأندية، هو في الحقيقة (اجتهاد أشخاص) قابل للمراجعة، وينبغي – في ظني – أن يُراجع لأن فيه نزعاً للأمسيات الشعرية تلك من (شخصية المهرجان الاعتبارية). من المؤمل أن نعي هذه المسألة، مسألة أن لمهرجان الجنادرية شخصية اعتبارية ذات صفة وقيمة وتاريخ، وبقدر صفة وقيمة وتاريخ تلك الشخصية الاعتبارية وهي ثقافية بطبيعة الحال، ينبغي أن تبقى لضيوف المهرجان جميعاً حصانة من أن يُنزع اعتبارهم الثقافي من الاعتبار الثقافي لشخصية المهرجان الاعتبارية التي أشير إليها الآن وألح عليها. وأنا أعلم أنه سيقال: وهل توزيع أمسيات أولئك الشعراء المستضافين، في الأندية الأدبية نزع لاعتبارهم من الاعتبار الثقافي لشخصية المهرجان؟ أنا أعلم هذا، غير أنني سأقول: نعم، هو نزع وإطفاء، نزع للاعتبار الثقافي يعزل النشاط عن كتلته المعنوية الثقافية الأصلية، ومكانها الرئيس، وإطفاء أيضاً للقوة الإعلامية والحضور لقصائد الشعراء المشاركين. والقائمين على النشاط الثقافي للمهرجان يعلمون أن هذه الفكرة مستحدثة، لم تكن من قبل في دورات المهرجان الأولى، وأنا لا أذكر من أي دورة من دورات المهرجان بدأ تطبيق هذه الفكرة، لكني أظنها ستراجع. إنها ينبغي أن تراجع إلا إذا كان القائمون على المهرجان سيضيقون بزحمة أولئك الشعراء في ردهات الفندق الذي يُستضاف فيه ضيوف المهرجان. فليتخففوا منهم إذن. أربع أمسيات شعرية بعشرين شاعراً، أظنها كافية على أن توزع بشكل متفاوت، أي أن تكون في أمسيات مختلفة. وقد كان من الملاحظ أن خمس أمسيات شعرية – هذا العام – في خمسة أندية أدبية كانت في ليلة واحدة، ثم السادسة في نادي جدة الأدبي كانت في ليلة تالية (الإثنين 4/17 خمس أمسيات، والثلاثاء 4/18 أمسية في نادي جدة الأدبي) وكان الشعراء -على ما أحصيتهم- ثمانية وعشرين شاعراً وشاعرة، غير شعراء الأمسية الرئيسة في الرياض، في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات. هؤلاء الشعراء الرُّحل، تقاسمتهم الأندية الأدبية، وتحت اسم المهرجان، وأنا في الحقيقة أريد أن أرى هذه المسألة مقبولة، إنني أتطلع إلى العدول عن قناعتي بكون هذا الشتات شتاتاً مراً وغير مقبول، وإذا كان في وسع أحد أن يساعدني على النظر إلى هذا بحياد، فهو (يسوي معروف)، غير أنني على قناعة أن هؤلاء الشعراء الذين ضربوا قي قاعات الأندية الأدبية، كانوا يميلون إلى أن يكونوا (قطعة) من كتلتهم المعرفية الأصلية من شخصية المهرجان الاعتبارية، التي كانت (تشن وترن) في الرياض، كانوا يميلون إلى أن تسمعهم صفوة ضيوف المهرجان من الأدباء والمفكرين والإعلاميين في الرياض، وكانوا يميلون إلى مخالطة ضيوف المهرجان من عباقرة الفكر والإعلام في الرياض، اسألوهم على الأقل على سبيل الاستبيان، ماذا كانوا يفضلون؟ هل هم راضون عن تشعيث أشعارهم وأشخاصهم في قاعات أنديتنا الأدبية؟ أين هي خصوصية كونهم ضيوفاً للمهرجان إذن؟ وأنا لا أقطع بصحة الطرح الذي أطرحه، أنا لا أقطع بشيء، لكني أتحدث عن قناعتي الشخصية وأطرح أفكاراً للتداول، ولكني – أيضاً- ما زلت على شيء من الثقة أن (المُستضيف) لا ينبغي أن يوزع ضيوفه في بيوت الجيران وإن قيل إن هؤلاء ضيوف فلان الكبير، وبالتالي فمهرجان الجنادرية الكبير لا ينبغي أن يقسم ضيوفه الذين شرفوا بدعوته – أيضاً- على مضارب الأندية الأدبية، وإن قيل إن هذه أمسيات شعرية ضمن النشاط الثقافي لمهرجان الجنادرية الكبير. قد ينصرف الفهم إلى أن هؤلاء استضيفوا بحماس ناقص، أي أن مسؤولي النشاط الثقافي للمهرجان لم يكونوا متحمسين، ربما لانشغالهم بمحاور الندوات الفكرية الكبرى، وربما لأنهم يرون المهرجان أكثر تواشجاً مع الشعر الشعبي، لأنه مهرجان تراثي، مع أن التراث ليس هو الشعر الشعبي فقط، وربما لطبيعة شخصيتهم الثقافية هم، كلها احتمالات، غير أن مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة أكبر وأوسع من عقولنا نحن، ومن قابلياتنا نحن، ومن ميولنا الثقافية نحن، وحين نقول: إنه مهرجان تراث وثقافة، فإن هذا يعني أنه مهرجان تستغرق شخصيته الاعتبارية (التاريخ الثقافي) لهذا البلد من أقصاه إلى أقصاه. التراث ثقافة (منقطعة) في التاريخ، أو على الأقل بعضها ذاهب في التاريخ، أي أن كثيراً من نشاطنا الثقافي اليومي الذي يوثق له المهرجان، كاد يندثر لأنه انقطع تاريخياً، لولا فكرة هذا المهرجان الذكية التي احتشدت له وأعادته لتفهم الأجيال عمقها الثقافي في التاريخ، وإن كان قريباً. وفي الجهة الأخرى، فإن الثقافة (أو كون المهرجان ثقافياً)، كل هذا يعني الانفتاح على عقلنا الثقافي بغير قيد ولا اشتراطات، وسيبدو لنا إذن كيف أنجب عقلنا التراثي الأول هذه الثقافة المتسعة المدهشة البهيجة، ولذلك فإنه كان ينبغي أن يحرص القائمون على المهرجان ألا يعزلوا بعض ضيوفهم عن البعض الآخر. وأنا أؤكد على أنهم ضيوف شخصية اعتبارية واحدة، ولم يكن مناسباً أن يُتركوا متباعدين. من هو الذي سيقول لنا : هل كان مبرر إقامة أمسيات الشعر الفصيح في الأندية الأدبية، في أكثر من مدينة، ثقافياً أو كان تنظيمياً؟ وهل كان سيضيق المنظمون بثمانية وعشرين شاعراً وشاعرة أن يكونوا ضمن (كيان المهرجان الاعتباري) في الرياض؟ عوضاً عن تفريق أشعارهم في ضيافة الأندية الأدبية بالإنابة؟ ينبغي على الجنادرية، أن تنتقي شعراءها بعناية، وهي تفعل هذا في ظني، والذي أقترحه –أيضاً- أن يكون ضيوفها من الشعراء وغير الشعراء ملتئمين كلهم (في دارها) في الرياض. هذا في ظني أفضل بوصف هؤلاء الضيوف (قيمة اعتبارية) من المهرجان منضافة إلى قيمتهم الاعتبارية الثقافية، والمهرجان بوصفه معياراً ثقافياً أيضاً، يشرف هؤلاء الشعراء باستضافته لهم، لن يضيق بهم أن يكونوا ضيوفه الذين يراهم ويرونه حيث منبته الأول، في الرياض. لماذ تُنيب الجنادرية غيرها لاحتواء ضيوفها وسماع أصواتهم؟ هي حالة استثناء ثقافي، حتى في ضيوفها، استثناء مميز مخصوص، وكان ينبغي أن يكون ضيوفها من الشعراء في دارها، أليست دارها فسيحة؟ إنها لفسيحة.