لا يمكن أن نتحدث عن أي صورة من صور العنف بمعزل عن هزيمة الحجة. هزيمة الحجة تعني هزيمة الأفكار، كل حجة في الواقع هي تراتب منطقي لمجموعة من الأفكار التي تصف الواقع أو تبرره أو تحتج عليه. إذا انهدم هذا التراتب لا يبقى له أي وجاهة فتموت حجيته. هذا يعني أن الأفكار تشعثت، تذهب ريحها ومن ثم فإن ريح العقل كلها تذهب، لا تبقى له حجة على الإطلاق، وفقدان الحجة يعادل العمى المعنوي – حين لا يتواضع الناس – وحين تتناهبهم أغراضهم وأهواؤهم وحين تغلب عليهم نزعات الثأر. فقدان الحجة – هذا – وقود بربري لكل عنف ولكل تهور ولكل عمى أخلاقي أيضا، فهو عمى معنوي أخلاقي فادح التبعات، لأن هناك تفاوتا كبيرا بين حجة العقل ونزعة العقل المتكبرة الفرعونية. قوة الحجة حين تنحسر تشتغل على عقول الناس نزعات عقولهم الفرعونية المتكبرة – حين لا يتواضعون – فيقع الشقاق والاحتراب بمبررات مخادعة كاذبة ويقع التخريب بضلالات التأويل والتسبيب الكاذب. إذا أردنا فهم الفكرة الفرعونية فلن نعدم القدرة على إدراكها بوصفها منحازة أشد ما يكون الانحياز إلى (تأليه ذاتها) إلى الحد الذي لا تريد معه أن تكون مغلوبة، إنها لابد أن تكون غالبة بصفة دائمة، والفارق بين فحش هذه الفكرة المتكبرة عند (متبنيها الواعي) وبين فشو بعض صفاتها في الناس هو في القصد أو النية أو الغفلة، الفارق أن معظمنا ينفر من الفكرة الفرعونية التي تحبذ الغلبة دائما، فيما يتلبس ببعض صفاتها أحيانا وهو لا يشعر، أي أن النية لا تتوجه إلى النزعة الفرعونية ولكن الواقع يغرق فيها بجهالة، بينما (متبنيها الواعي) يتعمد صناعة الواقع الذي يكرس نزعة الاستعلاء والغلبة ونكران الحق والحجة. هذه عجيبة من أعاجيب العقل الفرعوني، يفتقر إلى الحجة، فهو أوهى من بيت العنكبوت ثم يبدو متعاظما منتفخا مستقويا صائلا غير متردد، يحدث هذا – بطبيعة الحال – حين يلوح بعصا العنف، وبقدر ما تنهزم الحجة تشمخ هذه العصا الكاذبة الواهية فيقع الواقع كله – وإن كانت حجته أقوى – في الوهم. هذا الواقع هو عقل عام في الحقيقة، وحين يستجيب لسطوة العصا العنيفة تتعطل حجته إما بالحذر أو الخوف أو التردد أو التسويف. كم هي مفارقة ؟ قوة الحجة لا تستعين بغلظ الهراوات فيما الحجة الهزيلة المتهدمة تلوح بعصاها الغليظة. كيف يمكن فهم الظاهرة العنيفة في ضوء هذه الفكرة ؟؟ إن كل ظاهرة عنف معادل واقعي لضعف الحجة، يتحول هذا الضعف إلى جبروت غاشم ظالم، فهي تعني انعدام الحجية وتعني الهزيمة. النزعة العنيفة تساوي انهزام العقل وحجته حين لا يتواضع بطبيعة الحال وإلا فإنها ليست فرعونية قدر ما هي غافلة ذاهلة جاهلة أو خارجية. النزعة العنيفة الخارجية حالة خاصة من كل نزعة عنيفة لأن حجتها ضالة أكثر من كونها مهزومة، المحصلة واحدة. هزيمة الحجة وضلالها يؤولان إلى محصلة واحدة (عنف غير رشيد)، وفي الجهة المقابلة يندر أن تكون الحجة الغالبة الصحيحة نازعة إلى العنف – وإن قل – إلا في مواجهة عنف مقابل يحملها على العنف المقاوم – حين يستطيع – غير أننا سيوقعنا ذلك في الالتباس حين نتساءل: لماذا لا تؤسس الحجة الصحيحة لنفسها في الواقع ؟؟ لماذا لا تغرس نفسها فيه على قدر قوتها وحجيتها ؟؟ لأنها لا تنزع إلى العنف مثلا ؟ ولا تلوح بعصا العنف حين تلوح الحجة الضعيفة المهزومة بها ؟ الذي أظنه أن هذا يعزى إلى التفاوت الكبير بين طبيعة عقل الحجة الصحيحة والحجة الواهية أو المهزومة، عقل الحجة الواهية متهور شهواني متعجل وهو عبد لأغراضه ولأفكاره المختلطة، فهو لا يعطي قيمة للواقع. هذه طفولة العقل حين يكون طفلًا، ألا يراعي الواقع ولا يعبأ بالضرر الذي يحدثه فيه، وأحيانا هو لا يفرق بين الضرر والنفع، ويظن أنه لا يكترث إلا للمآلات وهو واهم، إذ مآلاته متصورة مظنونة، فيما عقل الحجة الصحيحة عقل برهاني منطقي. إنه عقل أفكار ذات تراتب غير متهدم أو مختلط ومن طبيعته أنه عقل غير قهري، أي أنه لا يقهر واقعه على فكرته قدر ما ينزع إلى إقناعه وتشبيعه بفكرته ليشتغل هو عليها بعد ذلك ويكتسي بظل شجرها الوارف، ولأنه عقل غير قهري فإنه لا عصا له، إنه لا يلوح بعصا العنف، قوته وحجته هي عصاه التي لا تشبهها عصا، لكن أثرها – للأسف – يمكن تعطيله بهمجية العقل المتهور وترهيب عصاه المنتفخة الكاذبة. كل حجة متماسكة لا بد أن تكون مسالمة وكل حجة متهدمة لا تخلو من أن تكون عنيفة غاشمة – إلا حين يتمحض الناس للحق والخير –. أين هي نقطة ضعف حجة الواقع، هذا الواقع المسكين الذي يشن عليه العقل القهري غاراته ليحمله على فهمه أو مراده أو ما يظنه إعلاءً لقيمته ؟؟ كل واقع له حجته الغالبة، هذه الحجة تنبني على فكرة اختلاط وتشابك المصالح والمفاسد وأنه لا يمكن الحديث عن المصلحة الغالبة إلا أن يكون الرأي معصوما، ومتى كان رأي العقل القهري العام معصوما ؟ فهذه – إذاَ – حجة منطقية معتبرة فوق حجة / مطارحة الأفكار المتناقضة بشكل غير عنيف / أي أننا ينبغي في تعاملنا مع كل واقع راهن أن نجعل الأفكار تشتغل على بعضها، الحجج هي التي تتقابل وتتنازع وتتغالب، ليس (العصي). لكن الحجة الواهية تأبى إلا العمى الأخلاقي، هي التي تخرج على واقعها وتلوح له بعصا العنف المقيتة. إنها دكتاتورية فرعونية النزعة، ليست فرعونية الذات لكنها فرعونية الصفات، هم صفات فرعونية ليست ذوات. والحقيقة أنه ليس في الواقع ما هو فرعوني إلا هذه النزعات المغرورة المناكفة، هي التي ينبغي أن تتغير وأن تعطي واقعها الفرصة ليتطهر من مبالغاتها وتأويلاتها، وأن تعاود النظر في ضعف حجتها لتتحول من كونها نزعات عقول قهرية إلى نزعات عقول تتداول الأفكار وتفككها وتلتقي على كلمة سواء. الحجة بهذه الطريقة لا تنهزم، لكنها تتراجع، ولا تستكبر لكنها تتواضع وهي فوق ذلك لا تؤذي ولا تجرح ولا تخرب، وحين تتراجع وتتواضع تكون أكثر قوة ومقبولية لأنها أكثر سلمية – بهذه الصورة – من سلمية الحجة الصحيحة الأقوى. وإذا كان هذا، فإن عصا العنف ستكون إرثا فرعونيا مكروها مزهودا فيه لا ينزع إليه عقل الواقع بأي صورة. وقد يحسن أن ننظر الآن بعين الاعتبار، كيف تطهر الواقع القديم من النزعة القاهرة المستعلية الظالمة المخربة، إننا سنلحظ كيف تغالبت الحجة القوية – حجة البرهان والحق – والحجة الواهية الظالمة، لقد كانت المغالبة بين الحجج، بين الأفكار، لم يكن هناك أي صورة من صور العنف تتبناها الحجة الغالبة، الحجة الواهية هي التي كانت تستذل بالعنف وتمضيه بعد التلويح به، لقد كانت عنيفةً لآخر لحظة، لكننا سنلاحظ – إذا أردنا – أن تطهير الواقع من هذه الطبيعة المناكفة كان عملا جراحيا دقيقا، لم يعطل الواقع ويشعثه. الواقع لم يتهدم، الواقع له حجته المبررة، إنما الأزمة في اختلاط الواقع المعنوي بالواقع المحسوس، والواقع المحسوس لا ذنب له لكي يتهدم. الذي يحصل الآن هو العكس – يتهدم المحسوس البريء بناسه ويبقى المعنوي كأنه إبليس-. كل واقع معنوي فرعوني مع سطوته (لاحظوا أنني أقول: واقع معنوي فرعوني وهو مايعني ضعف الحجة وشدة العنف، ليس الواقع المحسوس الذي لا يذهب ضحيةً في العادة إلا هو) أقول: ينبغي أن يُستدرج بعيدا ليفنى وحده هو وجنده بأقل التبعات والأضرار على الواقع المحسوس، واقع الناس والأشياء المقهورين المغرر بهم. هؤلاء يسهل بعد ذلك استصلاحهم ولا تكون التبعات فادحة، غير أنه من مكر الحجة الواهية والعقل الغاشم أنه يعمد إلى التضحية بواقعه ليبقى هو، يستجد واقعًا، يستصنعه، ليس فيه قوة الأفكار. المعنويات تستأصلها الأفكار، ليس (العصي)، (العصي) لا تبقي ولا تذر، لا على الواقع ولا على المعنويات ولا على الأفكار.