هل يمكن أن ننسب كل هذا الهيجان والانفلات ومكابرات التنازع إلى مبررات دينية؟ عنف المسلمين تحول إلى ستار ظالم مغتصب لبشاشة الإسلام، لبشاشة دينهم، والناس في العادة هم الذين يقولون: من هُم؟. المسلمون اليوم يغرقون في أزماتهم مع أنفسهم، ثم هم يُغرقون معهم أيضا، حتى الصورة التي تمثل دينهم. هل هم جناية على الدين؟ وهل هم صادّون عنه؟ وهل هم مشوهون لبشاشته وصفاء الأصل الذي يقوم عليه؟ لا ينفك الدين عن طبيعة عقل المتدين، هذه الطبيعة يمكن أن تكون قاصرة أو مريضة، وأنا على قناعة أن الإسلام أوسع من عقول المسلمين كلهم، غير أنهم ربما لا يريدون أن يتصوروا أن فهمهم لا يمكن أن يكون حجة على الدين، والمأزق الآخر -في ظني- هو مأزق الخلط بين حسن النية الذي هو براءة القصد وإصابة حكم الدين. نحن كثيرا ما نعتقد أن حسن إرادتنا يعني عصمة آرائنا وأولويتها على ما سواها، وهذه فكرة طفولية -في الواقع- برغم خطورتها، والدين يؤسس لنفي ومدافعة مثل هذه الأفكار القاطعة -بغير سند يقينيّ- لأن العقل حين يتبناها يقع في وهم تبني (أفكار يقينية)، هذه الأفكار المزكية لنفسها تتقمص معنىً أكبر من معناها. ومن ذلك فالعقل حين يتبناها يتصور أنه مدافع عن اليقين، فكرته تطابق الدين بشكل كامل، والدين يقين. هذا من أخطر مهيجات العنف والصراع والتنازع والمعاداة، وهي صفة نكدة لا تعلم أنها نكدة، والعقل الذي يقع في هذا المأزق هو عقل يجوز قدره. إنه يخلط بين النية والعلم، وقوة النية ليست هي قوة العلم كما أن قوة النية ليست هي قوة الحق والعدل. وهؤلاء الذين يميلون إلى العنف والفظاظة وبسط السطوة على الناس يفعلون هذا لأنهم قد التبست عليهم حتى قناعاتهم. من الصعب أن نقول إنهم مرتزقة أو كاذبون ولكنهم أشد خطرا من المرتزقة لأنهم انغلقوا على ما يتصورونه في حكم اليقين الاعتقادي، ووجه الخطورة في هذا أيضا أنهم يفتحون الباب مشرعا للمرتزقة والكاذبين كي يندسوا فيهم للتخريب والإيذاء وهدم الأمن الاجتماعي. هذه فئات ثلاث، أشد ما تكون خطرا على أي واقع اجتماعي: الذين يقطعون بصواب رأيهم أو موقفهم عن تصور اعتقادي كما يظنون، ثم يحتشدون للدفاع عنه، والمرتزقة الكاذبون المندسون، والتبعيون من العامة الذين تهيجهم الشعارات الدينية -مع شديد الأسف-. إن العنف سيكون معادلا واقعيا طاغيا بعد ذلك لطبيعة هؤلاء الناس. إن كل عنف وكل بطش، ليس له من سبب، غير العمى الأخلاقي الذي تغرق فيه عقول البشر، هذا العمى قد يكون ذا مبرر ديني أو اعتقادي (الخوارج مثال) وقد يكون ذا مبرر واقعي (مصلحة أو طمع أو استراتيجيات سياسية أو بقاء واقع معين أو تنافس أو مكائد أو تصفية حسابات وهكذا)، وعلى ذلك فما المبرر الأخلاقي المحض الذي يمكن أن نسوغ به العنف من المسلمين الذين جهموا بشاشة دينهم أو من غير المسلمين حتى؟. إطلاقا ليس هناك مبرر أخلاقي لأية صورة من صور العنف وإن قل. لا يمكن أن يعني العنف شيئا غير التوحش والعمى، هذا العمى الأخلاقي الذي أشرت إليه قبل قليل هو عين التوحش لأن العقل ينفك عن طبيعته التي فطره الله -تعالى- عليها، إن طبيعة العقل أن يسبغ الرحمة وأن يكون نافيا لما ولمَن يشيع في الناس ما ينافي هذه الرحمة أو يقيدها أو يجعلها متحيزة في مكان دون مكان. المبرر الأخلاقي للنفي إذا -ليس للعنف- هو أن يُصار في أية جماعة إلى إشاعة العنف أو تقديمه أو التذرع به لأي سبب مهما كان مبررا أو أخلاقيا هو الآخر. والدين في ظني ينفي حين يكون النفي مبررا ولا يعنف إلا في أضيق الأحوال وبمبررات على قدر ما يتعطل العنف أو يتعطل ضرره أو جزاء المثل بالمثل. إذا ذهبنا نستقرئ مبرر ما يظنه بعضنا عنفا في الدين فإننا سنتبين أنه لا يكون إلا لبسط الرحمة والدفاع عنها وبقدر وطبيعة محدودة في الكم والوقت والكيفية. هذه صفة الدين وهذه حقيقته، وهذه صفة الضمير الأخلاقي وهذه طبيعته، فهل يمكن أن نفك هذه العقدة البليدة التي تجعل جماعة أو فئة من الناس تتصور أن صفة فهمها مطابقة لصفة الدين؟ وأن صفة ضميرها الأخلاقي المشوش القاصر هي صفة الضمير الأخلاقي المحض المستعلي؟ كيف يحدث هذا؟ قلت: إنهم ثلاث فئات، فئة الاعتقاديين الذين يخلطون المتعالي على الخطأ بطبيعتهم القابلة للخطأ، وفئة المرتزقة الكاذبين الذين لا قضية لهم إلا مراداتهم، وهم الشُذَّاذ غير الأخلاقيين وفئة التبعيين الإمعات المحاكين، وهم في العادة أيضا ذوو مقاصد وإرادات مُطَوَّعَة، ليست اعتقادية ولكنها مقلدة، وهي قابلة للتغيير في الظرف المناسب وبالطريقة المناسبة. الفئة الأولى أكثر استعصاءً، والثانية شبيهة بالتجمعات البكتيرية، إذا انعدمت بيئتها المناسبة تتبخر وتفنى أما الثالثة فهي مثل الفقاعات المتناثرة المحتشدة تذهب بتعديل القناعات، وهي ليست مستعصية. ومن ذلك يمكن أن نلاحظ أن نزعة العنف هي جذر الأزمات كلها، وهي التي تهدم الواقع، وهي التي تصنع بيئات المرتزقة والأتباع المخدوعين، وأنها هي التي تقع بنفس القدر الذي توقع الواقع في الاضطراب والاعتلال والغليان والتصدع فضلا عن تعذر التحسين. إنها نزعة تظن نفسها دينية حين تصدر عن اعتقاد ديني مظنون، مع أن الدين ضدٌ محض لكل عنف. إن التدين الصحيح هو الذي يموت معه العنف وتموت معه القسوة، والدين الصحيح لا يتشوه إلا حين تتقمص العقول الضعيفة صفة فوق إمكانها. عقل ضعيف يحسن الظن بنفسه فيظن الفقه كله قد احتشد في إهابه، كيف يورد على نفسه احتمال الخطأ؟ وكيف نفك عقدته؟ إن الدين يحمي نفسه من هذه النزعة العاتية، ذلك أن فكرة الخطأ في دفع الأذى حتى لو كانت الذرائع أخلاقية أولى من فكرة الخطأ في وقوعه وشيوعه. ومن ذلك فإنه ليس هناك مبرر إذاً لإشاعة الفوضى، والفوضى صورة من صور العنف باعتبار أن كل فوضى هي وقود غاشم للضرر. والذي أتصوره أن كل أزمة عنف لا يمكن أن ترد إلا إلى طغيان الاختلاف، أحيانا باعتقادات دينية، وأحيانا باعتقادات واقعية، ويبقى على العقلاء من المختلفين أن يلتقوا على قناعة أن اتفاقهم ضرورة ليس ترفا، وإلا فإنهم سيتحولون جميعهم إلى وقود للعنف، وهم يشعرون أو لا يشعرون.