هذه الآفة من الآفات التي يقع في شؤمها الواقع والناس، وحتى الأشياء، أن تتحوَّل الأسماء إلى (أصل مخادع) والمعاني إلى (فرع ضائع) وأن يشتغل عقل الواقع المتخلف المأزوم على تعظيم الأسماء وتحقير المعاني، ومن ذلك الانغرار بالصورة الظاهرة على حساب الحقيقة الباطنة والقول على حساب الفعل والدعوى على حساب الحقيقة واللحظة الراهنة على حساب المستقبلية وهكذا. المعرفة كلها تتحوَّل إلى حاضنة لهذه الاعتلالات حين يتحوَّل عقل الواقع المتخلف المريض إلى مبرر مجادل مستعلٍ محتال مستكثر بالأسماء والصور الظاهرة والأقوال الفارغة والدعاوى العريضة. وعثرات التاريخ جميعها والكوارث الاجتماعية – وصورتها الحال السياسية وما تلد اليوم- إنما تُرد إلى هذه العلة المستشرية التي كانت خفية عن الوعي المدرك، ثم صحا على صوتها الظالم الغاشم. هذا الجبروت لا يتردد أن يُفني كل شيء لتبقى العلة (وهي علة أيضًا تتناسل منها علل)، أقول: لتبقى العلة على حالها، فهو يعلم أنه يفنى بالانكشاف، انكشاف كونه علة أسوء ما تكون العلة، ولذلك فإنه يكون أعتى ما يكون استماتة حين يوشك على الفناء بسوط الوعي الذي يفتت قلاعه المريضة وأبراجه العالية. قد يغفل العقل وهو تحت سطوة وأثر التسميات الكاذبة عن كون تلك القلاع والأبراج وهمًا، إنها أسماء ضمن جوقة الأسماء، أسماء عظيمة ومعانٍ حقيرة، وفتنة الواقع أسوأ ما تكون حين يخنع لهذه الأكاذيب، مع أن الانفكاك عن هذا يسير، وهو يتحقق بالكشف، كشف حقيقة أن المعاني هي القوة وهي القيمة وهي الحق، ومن المعاني ألا نكترث بالأسماء وحدها، وحتى الدين اشتغل على هذه الفكرة غير أننا لا نذكر، أو لا نريد أن نذكر، والله تعالى يقول: «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» فهنا تقليل لمعنى عظمته التسميات – بالتالي الأسماء- فهي أسماء غير ذات قيمة في الحقيقة «ما أنزل الله بها من سلطان» إذ هي بغير معنى إلا المعنى المخادع، ونحن في مواجهة أسماء عظيمة بالتواطؤ وهي مخادعة لأنها تحيل إلى معانٍ عظمة بالتواطؤ أيضًا، وبالكشف يتبين أنها فتنة واقع مخادع أو مخدوع مضلل، لأن المعنى كاذب أو متوهم أو متعذر أو غائب فهو معنى تم تحقيره بإلباس الاسم على فكرة كاذبة أو مدعاة. والآية الكريمة تحرِّض العقل على فاعلية الكشف، وفاعلية الكشف هذه تحوِّل الواقع المأزوم إلى واقع منكشف وبالتالي تصحيحه أو محوه بالكلية، وهو محو معنوي، محو أفكار لتحل محلها أفكار، وإلا فنحن لا نتحدث عن المحو المادي للواقع لأنه معطل للأفكار وكارثي التبعات كما هو ملاحظ. إذا كنا نريد الحديث عن إفناء الواقع فهذه آفة أيضًا مخيفة، وهي فتنة العنف اليوم بأسماء كاذبة يعظمونها، فيما المعاني غائبة يحقرونها. لا يمكن تفتيت بنية أي واقع بهذا الهيجان الهمجي ثم يكون لهذا مبرر أخلاقي مقنع. وقد كنت أظن – وما زلت- أن عقلنا المسلم –اليوم- إلا ما ندر، لا يحسن تنزيل المفاهيم وهي معانٍ أيضًا على الواقع. إننا – أحيانًا- نعزل المفهوم عن اشتراطات المفهوم، ونعزل المعنى عن اشتراطات المعنى، ثم نشتغل بعد ذلك على مجرد الأسماء. الأسماء في الحقيقة ليس لها اشتراطات، وسوق الأسماء مفتوح والذين يظنون التلازم مفروغًا منه بين الاسم والمعنى واهمون أو مخدوعون. المعاني حاسمة مستقرة لكنها متعلقة بالإدراك، فيما الأسماء إحالات وهي متعلقة بالوهم أو التضليل أحيانًا، وكلاهما، الوهم والتضليل، جذران مغذيان لهذه الفتنة المكتهلة المعمرة السرمدية، (فتنة تعظيم الأسماء وتحقير المعاني)، وعليه فهذه فتنة عقل عام قبل أن تكون فتنة واقع، وهي ذات وجهين كالحين، وجهها حين تستعبد الواقع باستعباد عقله، فيكون معطلًا، فلا يكشف، ووجهها حين ينتفض عليها الواقع بانعتاق عقله بالكشف، فيكشف فتنة التسميات، ثم يسعى إلى المحو أو التصحيح، فيبدو الوجه الكالح الآخر، وهو جهنمي الصفة والفعل، عنيف ولّاد، أي أنه يكون سببًا في ولادة أوجه مشابهة له بتسميات جديدة تعظم نفسها بالأسماء، وتحقر معانيها بفقد المعنى، ومرة أخرى نتيجة الوهم أو التضليل. ومن المؤسف أن هذين الجذرين عاتيان حين يمتزجان مع العقل الاجتماعي أو الديني، والعقل الديني على وجه التحديد أكثر خطورة إذا مازجاه، ومثله العقل السياسي، ثم ما الذي في وسع العقل الاجتماعي المدرك – ليس أي عقل- ما الذي في وسعه أن يفعل؟ إنه سيتعرض للمحو لا محالة، إلا ما ندر، لا بفعل الأفكار هذه المرة، ومحو العقل الاجتماعي المدرك يعني: أن يغرق صوته في بحر الأصوات الصاخبة الهادرة العنيفة الهمجية، فلا يكون له أثر، ويترتب على هذا أن يتراجع الكيان الاجتماعي كله إلى حالة الصفر، أي أنه لا يكون مجتمع. حالة الصفر الاجتماعي هذه هير التي تؤول إليها كيانات الدول حين يتسمم عقلها السياسي والديني بأثر الوهم والتضليل، ثم يصطرع. وفي حسباني أن هذا ما حدث في الواقع المنظور، لا أبالغ إذا قلت إنها / حالة صفر سياسي وحالة صفر اجتماعي/ وإذا ذهبنا ننظر في الرابط بين حالة الصفر هذه وما نُنَظِّر له في هذه الكتابة، فلن يكون متعذرًا أن نتبين كيف تتضاد التسميات لدرجة الاحتراب، وبالتالي الأسماء، وكيف يعطي طيف العقل السياسي والديني أيضًا حالة الصفر هذه أسماء متعارضة بقدر تعارض عقولنا السياسية وعقولنا الدينية كذلك. وتظل هذه الأسماء إذا تأملناها معظمة لنفسها منبوذة عن معانيها، أي إنها من جديد فتنة تعظيم الأسماء وتحقير المعاني. ينفك الرابط المدرك بين الاسم و المسمى، فيحق على الواقع المعنى الذي ندركه من قوله تعالى: «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم»، أعني أنها أسماء بغير معانٍ، أي أنها غير ذات قيمة ولا مصداقية. وإذا كان الفاعلون يصدرون عن هذا الواقع إليه، فإنهم يشبهون -لا محالة- أولئك الذين ظلوا يتيهون في الأرض أربعين سنة، وأنا لا أعنى حالًا عقائديًا متشابهًا، إنما أريد الإشارة إلى حالة التيه بوصفها واقعًا ومآلًا لا تخطئه العين حين تتيه الأسماء عن المعاني، فهي في الحقيقة معادلة لما سميته حالة الصفر السياسي والصفر الاجتماعي أيضًا. حالة الصفر السياسي: أن يفقد العقل السياسي قوته وفاعليته ورشده واستقلاله، كما أن حالة الصفر الاجتماعي: أن يفقد المجتمع عقله الاجتماعي المدرك وقابلية التئامه فضلًا عن بقاء ذلك الالتئام وفضلًا عن نموه، بل هي: أن ينتثر المجتمع كله، هذا أوضح، حالة الصفر الاجتماعي: أن ينتثر المجتمع وأن يتحول إلى ساحة لصراع الأسماء العظيمة والمعاني المحقرة والفرق شديدة البأس، لا تعي أين تجعل بأسها. إنها – كما تلاحظون- حال ماحقة، عقول تنزه أفكارها وأنفس تنزه إراداتها وبالتالي أفعالها، وقلوب غليظة، وأيدٍ غليظة أيضًا، والواقع والضعفاء المحايدون، وحتى الشجر والمدر، يروحون وقودًا منتثرًا لهذا الهيجان المنفلت. إن روح التعصب وجاهلية التسميات هي هذه، تعظيم فكرة الذات واسمها وتصفير (بالفاء) ما عداها، وأي واقع يروح ضحية لهذه النزعة، إما أن يتحوَّل إلى تابع أو إلى محو إذا لم يبلغ القدرة على استئصال شأفة هذا الجذر السام، بتعديل الأفكار. وأنا أريد التأكيد أن العقل أحيانًا يفتن نفسه بأثر الثقة المفرطة فيها أو الهوى أو الاعتياد أو التواتر الثقافي أو النزعة الديكتاتورية، وضلالات التسميات تابعة لهذا، وفي القرآن العظيم قوله سبحانه: «وقال الذي آمن يا قومِ اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد» وقوله سبحانه: « قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد»، هذا هو الاسم واحد، غير أن المعنى ليس واحدًا، هناك معنى إيماني أخلاقي وهناك معنى متوهم مضلل، وهو معنى محقر في الحقيقة، هكذا تتبين فكرة – تعظيم الاسم و تحقير المعنى – وهي فتنة للعقل والواقع في مقابل فكرة – تعظيم الاسم وتعظيم المعنى – وهي إحياء للعقل والواقع. كيف يمكن أن ينظر المراقب إذاً، إلى تهدم الكتلة الاجتماعية الحرجة التي تعطي المجتمع عقله المدرك وصفته، حين تتناهبها أوهام التسميات والمعاني المدعاة وبأس الجماعات وكيف يكون في وسع هذا المراقب أيضًا أن يعمل على الشفاء من متلازمة الصفر الاجتماعي والسياسي التي سماها كثيرون بغير اسمها وابتدعوا لها أسماء عظيمة؟ هل في وسع (جنيف2) أن يلملم هذا الصراع الذي يشبه الهباء؟ اللهم لا يأس.