التلازم بين النزعة الأخلاقية وما هو إنساني، ضده التلازم بين نزعة التوحش وما هو غير إنساني، ونزعة التوحش هذه لا تتغذى إلا من انحباس الفكر، وانحباس الفكر روح التعصب وفرعونية الأفكار، الذي يترتب على هذه النزعة هو موت النزعة الأخلاقية والجنوح إلى المنازعة الغاشمة في مقابل جنوح النزعة الأخلاقية إلى المدافعة بشكل غالب أو مستديم. والواقع كله تصطرع عليه هاتان النزعتان وتتغالبان. إنما طوفان الأزمات كله لا يحتدم إلا ناتجاً عن أزمة التوحش الظالمة لأنها لا عقل لها ولا عِقال. إنها تتغذى من عقلين اثنين: عقل ماكر مُضَلل تائه في انحباسه على ما يدركه هو، فهذا انحباس أصل، والعقل الآخر عقل فقير تبعي مأسور لتصوراته التي شُحن بها -لم يبتدعها هو ولم يناقشها هو- فهذا انحباس فرعي مترتب على الأول، وكلاهما منطوٍ على نزعة توحشه السابقة واللاحقة. وإذا كنا نعلم أن القابليات عند البشر مذهلة وخطيرة إذا لم تسترشد فإن القابلية للتوحش طاغية وغالبة، إنها ليست صفة متنحية ولكنها غالبة. لكن السؤال الآن هو: ما الذي يعنيه استرشاد هذه القابليات لكي لا تتوحش فتُغرق واقعها كله في نزعات التوحش المستعلية المفسدة في الأرض بغير حذر ولا تردد؟ إن من شرط الاسترشاد أن لا يتنكر العقل لنفسه، هذا يعني أن لا يتحول العقل إلى عبد لغيره ولا لقناعات غيره ولا أفكار غيره ومعتقده السياسي وإن كان بغطاءٍ ديني، الذي يترتب على هذا بشكلٍ تلقائي أن يتعذر تسخيره بأي صورة، وأن تتعذر صناعة التكتلات البشرية المضللة، إن بمبرر مذهبي أو طائفي أو حتى عرقي. كل هذه مبررات متوهمة إذا أردنا تحويلها إلى نزعات تسلط اجتماعي أو سياسي أو ديني، والعقل حين يكون نفسه ويهتدي بطاقته هو، سيهتدي إلى مبدأٍ أخلاقي، هو ديني في الحقيقة، هذا المبدأ الأخلاقي له روح، وروحه أن نكون إنسانيين. هذا يعني أن نكف الضرر، أن نميت نزعات الأذى أياً كان. وفكرة التذرع بالمصلحة الأعلى ليست شيئاً غير مشروط، لأن المصلحة الأعلى نفسها ليست اجتهاداً محضاً كما هي الوسيلة إليها ليست مفتوحة على كل وسيلة وإن كانت غير أخلاقية. إن السلم أصل مراد، حتى بالمعيار الديني، وكل جدل وكل صدام إنساني وكل احتراب لا يمكن أن يكون إلا استثناءً، الذين يظنون أن الحرب تكون دائماً مبررة أخلاقياً واهمون. عن معنى المحاربة لا ينصرف في العادة إلا لما هو سلبي وظالم ومصادم لفطرة الله تعالى وللقانون الأخلاقي، أما المدافعة التي هي من صفة النزعة الأخلاقية فلا يمكن أن تسمى حرباً، ولذلك فالحرب بالمبرر الأخلاقي نقول عنها أو نسميها «جهاداً»، لا يُقال إنها محاربة أو حرب، فكل مدافعة –مبررها أخلاقي بالضرورة- هي جهاد، وإذا ذهبنا نتأمل القرآن العظيم، فإن في وسعنا أن نتبين هذه الفكرة «فكرة الجهاد حرب أخلاقية، مبررة أخلاقياً». كل جهاد إذا هو حرب أخلاقية أو مدافعة أخلاقية لأنها ذات نزعة إنسانية في الحقيقة، وكل توحش هو حرب غير أخلاقية لأنها ذات نزعة متوحشة وبغير مبرر أخلاقي. كل عنف بهذا المقياس هو حرب غير أخلاقية إلا إذا كانت للمدافعة وبضابط أخلاقي أيضاً، ولا يُقال عن الجهاد إنه «عنفٌ» لأنه فعل أخلاقي، فالجهاد محاربة أخلاقية حين تتعذر وسائل الدفع الأخرى أو يتعذر إيصال الحق بوسائل أخرى. الذي ينبغي أن ندركه أن كل جهادٍ بالمعنى الديني له ضابط أخلاقي، إن له عيناً وعقلاً وقدماً راسخة، إنه لا يخبط خبطاً عشوائيا لأنه يصدر عن نزعة أخلاقية –إنسانية بالضرورة– لا عن نزعة متوحشة –غير إنسانية بالضرورة– وليس في وسع أحد أن يحول حتى المفاهيم إلى عبيد لأغراضه أو فهمه أو نزعاته المريضة المتوحشة. لا يمكن أن ينصرف مفهوم الجهاد الذي هو حرب أخلاقية إلى أي غرض دنيوي أو سياسي أو اجتماعي. هذا حق متمحض للحق مسنود بالحق معزز بعقل الحق. ما الذي يجعلنا نتصور الآن أنه يمكن أن يكون الجهاد الذي هو جهاد بغير عينٍ ولا عقل؟ هل سنعي أننا ينبغي أن نكون بإزاء شرطين أخلاقيين واقعيين لابد من أخذهما في الاعتبار؟ عن عقل الجهاد أن يدرك الواقع بذكاءٍ عبقري، وعين الجهاد أيضاً أن لا يصيب الأبرياء والضعفاء والمحايدين، وألا يتحول إلى محق للواقع، الواقع اليوم ليس جاهلياً محضاً والإسلام مستقر بوصفه فكرة أخلاقية، فأين هو هذا العقل وهذه العين اليوم؟ إن مفهوم الجهاد في الدين لا يمكن أن ينصرف إلا إلى حالين: المدافعة وهي حال اضطرار، أو عرض الفكرة فتُمنع أن تعرض وهذا حال اضطرار حين يكون التأسيس للفكرة اليقينية ملحاً، ونحن اليوم في وسعنا أن نوصل بالأفكار والمجادلة والمشاركة ما لا يمكن أن نوصله بأي وسيلة عنف أخرى وإن سميناها بغير اسمها. ما الذي يمنع من تعزيز النزعة الأخلاقية، عوضا عن النزعة المتوحشة؟ كل نزعة لها معادلها الموضوعي، عقل مستقل معافى، وعقل مستعبد مريض، العقل المستقل لا ينازع ولا ينزع إلى العنف، إنه يجادل ويمكن أن يتراجع، فيما الآخر غاشم يخبط بالعنف لأن المرض يعطل أفكاره ويشل حركته، فهو لا يجادل بالفكرة، إنما يفرضها، ولا يمكن أن يتراجع. ومن المتعذر أن يتمحض الفعل العنيف لفكرة غير عنيفة، الفعل العنيف يتغذى من جذر يابس صلد شديد الصلادة هو «انحباس الفكر»، إن غاشم مظلم، على أننا حين ننظر في اشتراطات مفهوم الجهاد لا يمكن أن نعي العنف إلا ارتفاقاً عارضاً غير مقصود لذاته، لأن كل عمل أخلاقي، والجهاد عمل أخلاقي، لا يمكن أن ينطوي على تقصد العنف. إنه ليس هدفاً لكنه اضطرار، وهؤلاء الذين يطابقون بين المفاهيم –حتى الدينية– وبين نزعتهم العنيفة وهي صفة لطبيعتهم وتركيبتهم النفسية، هؤلاء يحولون عقولهم إلى حجة على الناس فيغرقون في جهلها ثم ينزعون إلى إغراق الواقع معهم. إن التخبط العنيف غير المسترشد لا يمكن أن يصدر عن فقه مستبصر، ومحصلته لا يمكن أن تكون أخلاقية ولا إنسانية قدر ما هي ضد الأخلاق وضد الإنسانية. إن العقل أحياناً يكاد يتحول في انحباس فكره على حالة من السمية تكفي لإبادة كل من هو خارج جماعته أو مذهبه أو طائفته أو عرقه أو تأويله الفقهي، إذا كان في وسعه أن يتأول، لأن الفكر إذا انحبس يتحجر ولا يُنتظر منه إلا الشقاق والمعاداة. وأنا حتى على المستوى الشخصي ما رأيت سلوكاً متوحشاً -ولو بقدر ضئيل في تعاطي الناس مع بعضهم- إلا وجذره الذي يغذيه انحباس الفكر على رأي أو غرض أو فهم أو حاجة أو ما شاكل ذلك، فكيف إذا كان هذا باعتقادات أو فهومات دينية قد لا تكون صواباً. إن محاولة العقل تأليه نفسه وهو لا يشعر هي في الحقيقة فتنة مريعة للعقل نفسه مثل الذي كان يقول: « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» هذا مثال لنزعة التوحش التي لا ضمير لها، الضمير مات في انحباس الفكر وما من ضمير ميت إلا وقاتله انحباس الفكر في المجمل. كيف يمكن أن نقارن هذا النزعة بالنزعة الأخلاقية عن عثمان رضي الله تعالى عنه في البلاء الذي أصابه؟ هذا تقريب فقط، إنه كان بنزعته الأخلاقية الإنسانية ينفي «الواقع الفرد/هو» لكي يبقى «الواقع المجموع/الآخرون» متماسكاً. ما كان يريد محق الواقع والناس في مواجهة فكر منحبس. هل كان الذين حاصروه، وهو من هو، منحبسي الفكر؟ هل كان احتدامهم وعنفهم يتغذى من انحباس فكرهم؟ لقد كان انفتاح فكر عثمان رضي الله تعالى عنه على الفكرة الأخلاقية وهي روح الدين مشرعاً إلى درجة نكران الذات، في مقابل انحباس فكر الآخرين على الفكرة الضيقة، وهي رأي إلى درجة نكران أو نسيان روح الدين. وسيتبين كيف يشتغل انحباس الفكر على تعطيل كل نزعة أخلاقية وتغذية كل نزعة متوحشة. إن الواقع كله يتحول إلى واقع ذهني مراد أو متصور، العقل يقفز على الواقع المنظور، يهدمه، يحطمه، وينكل به أشد التنكيل، دون أن يرقب فيه إلاً ولا ذمة. فما هو نصيب هذه الشعارات المحتدمة اللاهبة اليوم من هذا الانحباس؟ علينا أن نفهم أنه ليس هناك مثالي، وعلينا أن نفهم أيضاً أنه ليس هناك واقع يقوم على أنقاض واقع قبله. نسف الواقع فكرة متوحشة غير أخلاقية لا ينتصر فيها أحد، وكل واقع يمكن تحسينه بانفتاح الفكر ليس بانحباسه. بث الأفكار، تداولها، تعديلها، تحسينها، تخطئتها أو تصحيحها، هذا هو الحل الذي يتحول معه العقل المتوحش إلى غراب ينعق في «الثقوب السوداء» بعيداً نائياً، لا يرى ولا يُرى، لا يسمع ولا يُسمع.