علّم الرحمن الإنسان ما لم يكن يعلم، وجعل مصراعيّ تلك العلوم مشرعةً ب (اقرأ). إنّه لا عجب ولا ريب، لو لقيتَ شيخاً قد اشتعل الرأس منه شيباً، يحدّثك بالحكمة متجاوزاً حدود معارفك، ومُقرّاً في نفسك طول الطريق الذي سلكه، فيرويكَ من معين تجربةٍ عتّقتها الليالي والأيام. ولعلّ أوجه تلك الأسباب التي يمكن لعقلك أن يجيبك به على كلّ تساؤلاتك نحوه؛ بأنّه ذلك الفارق السِنّي، الذي عاصر به في هذه الحياة، ما مكّنه من سَبْر أغوارها، وكشف أسرارها، وتحليل أطوارها. لكنّك -ربما- تتفاجأ من شابٍ يحدّثك، رغم حداثته، بآراءٍ وأطروحاتٍ يانعة، تُحرّك في دواخلك ذلك السؤال: من أين لك هذا؟ تتساءل -وحُقّ لك- أهي روح حكيمٍ صينيّ حلّت فيه، أم هي معرفةُ متصوّفٍ هنديّ أُوحيَتْ إليه، أو أنّها تلفيقات منجّمٍ أصابت هذه المرّة؟ أقول لك، ما لك وللهرطقة! بل هي سِنيُّ المعارف، التي طواها بِبُراق القراءة والإطلاع، فغابَ عنّا برهةً، ثم جاءنا بما لم تستطعه النفوسُ القواعد. وقد أوْجَزَ العقّاد فيما قاله: «القراءة وحدها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عمقاً، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب». إنها معادلة بسيطة للغاية ولكنّها تحتاج لكل واعٍ فَطِن، وقد غفل عنها كثيرٌ من المتأملين. أودعَ الله في الناس عقولاً، وكيَّفَ للعقول مدارك، وجعل المدارك كغشاء فضفاضٍ متدليةً أطرافه، بوسْع أحدنا توسعة جوانبه، وملؤها كيف شاء. وبعد ذلكم، أرتجيكم ألّا تسألوني: هل بالقراءة؟ فأقول: إذن بمَ؟ إنها مرحلة الشباب يا سادة، مرحلة الإعداد والاستعداد، إنها المرحلة التي تختار فيها لنفسك، بأيّ الوجوه تلقى الناس غداً. فثبوا كما تثب الحياة قويّة إنّ الشباب توثّب و تقدّم وتقحّموا خطر الطريق إلى العلا فخطورة الشبّان أن يتقحّموا وابنوا بكفّ العلم علياكم فما تبنيه كفّ العلم لا يتهدّم كان أحد معلمينا الأفاضل في الجامعة يردد علينا عبارته التي حفظناها عنه، التي عبّر بها عن الماضي الفتيّ الذي رآه وعاصره، ثم عاد به الواقع إلينا شيخاً أكهله طول المُكث بيننا، يقول: «أبنائي؛ ما تفعله وأنت في سِنّ العشرين، ستعيشه حين تصير إلى عمر الأربعين» وكن رجلا ناهضا ينتمي إلى نفسه عندما يسأل فلست الثياب التي ترتدي ولست الأسامي التي تحمل ولست البلاد التي أنبتتك ولكنّما أنت ما تفعل حياتنا تسير، وكلنا نعيش اللحظة ذاتها، فمنّا من ادّخرها لغده، وآخرُ قضاها في وطره، وما بين هذا وذاك كما بين من في صدر المجلس ومن هو عند بابه! وموعدنا يوم تتصدر الرجالُ المجالس، فمن لها غير المدّخر؟ العِلمُ مَغرَسُ كُلِّ فَخرٍ فَاِفتَخِر وَاحُذَرْ يَفُوتُك فَخْرُ ذَاكَ المغْرَسِ فَلَعَلَّ يَوْماً إنْ حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ كنتَ الرئيس وفخرّ ذاك المجلسِ ألم يصدق الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك لأبنائه ناصحاً؟!: «يا بنيّ تعلموا العلم، فبالعلم يشرف الوضيع، وينبه الخامل، ويعلو الأرقاء على مرتبة الملوك». أخيراً.. «لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني».