لم تكن اللحظة التي ظهر فيها نظام «الوورد» ولوحة المفاتيح المرافقة للحاسوب، إلا الفصل الأخير حتى الآن من بداية تحول وسائل الكتابة من عصر إلى آخر. من عصر القلم والورقة ودواة الحبر إلى عصر الكتابة التي تُستخدم لها كلتا اليدين بأصابعهما العشرة نقراً على لوحة المفاتيح. إنه تحول كبير لاشك، فالكتابة «المشذبة» على الشاشة حلت مكان الكتابة «المشذبة» على الورقة، وإذا كان التشذيب على الشاشة لا يؤثر في نظافة ونقاء ورقة «الوورد» من الناحية الطباعية، فإنه على الورقة التقليدية يترك آثاره التصحيحية طمساً وتعديلاً، وإعادة كتابة ما يحيلها في كثير من الأحيان إلى ورقة ملطخة بتناقضات الخطأ والصواب والسهو والعمد والفكرة قبل وبعد الصياغة النهائية. واللغة من هذا المدخل الموجز، تحولت بدورها من كائن محافظ على فصاحته في حدودها المعتبرة نخبوياً إلى كائن بدا من الوهلة الأولى مشدوهاً أمام المعجم التقني ومصطلحاته ورموزه وعُجمته، غير أنه ما لبث أن أفسح للوافد اللغوي والتقني مدخلاً، كان لا بد منه، لاستيعاب مرحلة اللقاء الأول أو برهة التعارف بين لغة وأخرى، ثم لم يعد هناك من مقاومة تذكر على صعيد تدفق المعرفة الحديثة بلغاتها المختلفة سواء اللغة التقنية أم لغة الرموز والأيقونات أم لغات الشعوب المحملة بمعارفها وثقافاتها في عموماً. وعندما أضاء الباب السحري «الإنترنت» دروبه الطويلة والمتشعبة، وضرب أسيجة من عوالمه الافتراضية على عدد من وجوه العلاقة مع الكتابة واللغة، وعندما دخلت أجهزة «الكمبيوتر» الثابتة ثم المحمولة، وما تلاها من أجهزة عالمَ الكلمة المقروءة والمكتوبة والسطر اللامرئي على الشاشة، عندما حدث ذلك، ألفينا ذلك الاشتباك الذي لم يتوقف يوماً بين اللغة العربية ومحدثات التقنية وتطبيقاتها المتجددة باستمرار، ودخل في حرم اللغة الفصيحة الكثيرُ من المسميات والمصطلحات المهاجرة أو المفروضة، سواءً من جهة المعالجات الفنية الضرورية للنص عموماً أم من جهة التوطين المطرد للكلمات القادمة من لغة الآخر بشقيها المعرب والخام. وبالتالي، انتقلت اللغة العربية من المستوى الفصيح المحافظ على نظامه اللغوي والنحوي القويم إلى لغة متشكلة من مستويين، إذا جاز لي أن أدعي ذلك، وكلا المستويين يحضر الآن نفسه من لدن مستخدمي الأجهزة الحديثة و«الإنترنت». المستوى الأول وهو الذي يعج بالمسميات والمصطلحات الأجنبية مثل «كمبيوتر» «سكنر» «تويتر» «فيسبوك» وغيرها كثير، وهي كما نلاحظ تكتب في بعض الأحيان كما هي بلغتها الأصلية المعربة، ولكن بين قوسين كما فعلت أنا هنا، وفي أحيان أخرى، تكتب من دون أهمية تذكر لهذا الإفراد اللغوي المعزول عن اللغة المحلية، وشاع وانتشر بين الكتاب والقراء هذا النمط من التشابك الحتمي، وقد يكتب أحدهم كلمة «كمبيوتر» بدلاً من الترجمة العربية الشائعة عن الكلمة ذاتها «حاسوب» أو كلمة «ديليت» عوضاً عن «حذف»، وهكذا إلى ما لا نهاية. وعلى رغم ذلك، لا تؤثر الكلمة في المعنى المراد في السياق العام للنص، وفي الأدب الحديث (الشبابي تحديداً) يبدو مألوفاً لكثيرين ميل بعض الأدباء إلى إدخال كلمات غير عربية في نسيج نصوصهم من غير أن تخل بالقراءة الأدبية في سبيل التقاط المعنى. أما المستوى الثاني، فهو نشوء لغة جديدة من اللغة العربية متخففة من صرامة اللغة الأم في تحريها الفصحى وتزمتها للأصل، إنها لغة قريبة من الاستخدامات اليومية في حياة الناس العاديين، وتقترب من اللغة الصحافية في الطرح وإيصال الفكرة، كما أنها لا تعطي كبير اهتمام لحساسية الأصل والطارئ، بل تعطي أهمية أكبر للغة الاستهلاكية التي تتسع فلسفة الاستهلاك فيها للمعطيات التقنية على اختلافها، وتتسع أيضاً للترجمة إليها من كل اللغات المؤثرة عالمياً، وبذلك تبدو متجددة من فترة إلى أخرى، ولكن هذا ينحصر في مساحات الاتصال المباشر بالإنترنت، وما يمور في فضاءاته من مواقع افتراضية ومنتديات محلية، تصطخب أقسامها بآلاف المشتركين من المتحدثين بالعربية. والمتتبع لهذه المواقع والمنتديات، يلحظ شيوع اللهجات المحلية واللواذ بالمحكي في التخاطب والتعقيب والشرح في كثير من الأحيان، أما في الفضاءات الورقية (صحف، مجلات، منشورات، مطويات)، فإنها على رغم اعتمادها اللغة العربية في طورها المقارب للفصاحة التقليدية، وإن بدت أكثر تحفظاً في التعامل مع التقنية ولغتها ومصطلحاتها، إلا إنها في المطبعة تتم معالجتها كاملاً ضمن التطبيقات الآلية الحديثة في الإخراج والطباعة وغير ذلك. وعموماً نجد في اللغة العربية المعاصرة مرونة ملحوظة بل كبيرة حيال التعامل مع كل جديد تقني أو ثقافي، غير أن هذه المرونة إنما تلحظ في دائرة الاستخدامات العامة غير المتخصصة، ويمكن ملاحظتها بين أوساط الشباب المتعلمين ورجال الأعمال والأكاديميين المتحدثين بأكثر من لغة، ويمكن ملاحظتها أيضاً في دائرة الإعلام اليومي المرئي والمسموع عبر البرامج الحوارية واللقاءات العامة المباشرة التي يغلب على ضيوفها الارتجال والكلام الفوري. ومن نافل القول، أن الهيئات العربية المتخصصة في التعريب، ومعها وزارات الثقافة العربية وقطاعات التعليم الحكومي والخاص، كل هذه الجهات ما تزال ذات تأثير محدود في التعامل مع هذه المستجدات، وكيفية هضمها واستيعابها لمصلحة اللغة العربية التي تواجه اليوم خطر الكتابة من اليسار إلى اليمين، وخطر التحدث العامي بلغات أخرى سواها.