لم أمتدحك رجاء المال أطلبه لكن لتلبسني التحجيل والغررا كان طموحه كبيراً فهو في هذين البيتين اللذين يخاطب فيهما الحسن بن سهل قد رسم لنا بتجريدية طاغية طموحاً لا يطوقه المكان ورغبة لا محدودة في الشهرة وأن يكون هو سيد المشهد وأحد رجالات الزمان. هو محمد بن عبدالملك الزيات الشاعر والأديب وفوق ذلك هو من أشهر وزراء الدولة العباسية. كان ذا ذكاء استثنائي وكان يعي جيداً طبيعة المرحلة ويعمل عقله جاهداً لنيل دوره في القادم من الأيام. يحدثنا التاريخ أنه صاحب شعراء زمانه وعديد من مشاهير الأدب. واستمر في تحصيل العلم والآداب وكتابة الشعر والتعمق في مختلف العلوم والمعارف ثم استخدم كل ذلك ووظفه بدهائه للوصول للوزارة. فحوى بين يديه سلطة المعرفة وسلطة السياسة. دراسة شخصية ابن الزيات تصيبك بالدهشة، بل وتجد صعوبة في تصنيفه أو إجراء رسم دقيق لتركيبته السيكولوجية. فهو يصف نفسه على لسانه، بأنه شخص مجرد من الرحمة وخال من المشاعر. فنجده يقول (ما رحمت أحداً قط!)، إذ إن صاحبنا يرى أن هذه الغريزة التي جبل عليها الكائن البشري هي تجسيد للضعف الإنساني. وأن الإنسان لخليق به أن يتخلص من هكذا صفة ويلخص ذلك بقوله: (الرحمة.. خور في الطبيعة). بل ونجده في ملمح آخر، يرسم لنا فلسفة تبرز لنا نمطه الفكري في التعاطي مع باقي المكون المجتمعي فهو يرى (أن أغلب البشر كالبقر). أي أنه يحصر أدوارهم الحياتية في فلك الاحتياجات الإنسانية الأساسية التي وضعها العالم النفسي والمفكر التربوي الشهير (ماسلو) في أسفل هرمه الأساسي للاحتياجات الإنسانية، أي (تناول طعام وشراب وقضاء حاجة وتزاوج) فقط. فالعوالم في نظره إن كانت بلا ثقافة، فهي في ممارساتها الحياتية أقرب إلى حياة الحيوان منها إلى الحياة الإنسانية. وصفه نقاد عصره بأنه كان بليغاً وفصيحاً وليس أدل على ذلك من وصف البحتري لبلاغته بقوله: ومَعَانٍ لَو فصلتها القوافي هجنت شعر جرول ولبيد حُزن مستعمل الكلام اختياراً وتجنبن ظُلمة التعقيد ورَكِبن اللفظ القريب فأدركنَ بهِ غايةَ المُرادِ البعيدِ وعندما يختلط الأدب بالسياسة، فإن المحن تطل برأسها. كثرت خلافات ابن الزيات مع معاصريه فنجده يدخل في خصومة ومهاجاة مع الشاعر علي بن جبلة. ونجده فينة أخرى يفخر بأصوله الفارسية وينتقص بطرف خفي العنصر العربي في خصومته مع أبو دلف فيقول: يا رب إن كان ما أنشأت من عرب شروى «أبي دلف» فاسخط على العرب ولعل آخر ذلك وما عجل بنهايته هو خلافه مع القاضي أحمد ابن أبي داوود. فالميثالوجيا العربية تحدثنا أن ابن الزيات قد اتخذ تنوراً وبداخله مسامير محماة فكان يسعى بالوشاية بخصومه إلى الخليفة والإيقاع بهم لديه. ومن ثم يقوم بحبسهم في هذا التنور ويسعد بصراخهم وتذللهم وطلبهم الرحمة إلى أن تفيض أرواحهم إلى بارئها. فقد ورد في تاريخ الخلفاء، أن ابن الزيات كان يميل إلى تولية ابن الخليفة الواثق الذي كان حينها فتى صغيراً عوضاً عن المتوكل الذي كان ولياً للعهد والمرشح الأصلي للخلافة. فكان يسعى بالوشاية في حق المتوكل إلى أخيه الواثق ويرغبه في خلع المتوكل وأن يعقد ولاية العهد لابنه الصغير. فلما توفي الواثق وولي الخلافة المتوكل، اعتذر إليه ابن الزيات وطلب منه الأمان فأمنه المتوكل واستوزره حتى استتب له أمر الخلافة ثم عمد تحت إلحاح ووشاية القاضي ابن أبي داوود المستمرة إلى نكبته. فسلّمه إلى خادم له يُدعى (عبادة) فوضعه في ذات الفرن الذي اعتاد أن يحبس فيه مخالفيه ويحرقهم بالنار ويشوي أجسادهم وقام بتعذيبه عذاباً شديداً. ويمضي التاريخ ليحدثنا أن ابن الزيات كان يصرخ بين فينة وأخرى: ارحموني.. ارحموني. فكان الرد (ألست أنت القائل إن الرحمة هي خور في الطبيعة، وأنك لم ترحم أحداً قط؟). استمر التعذيب والعنف مع شاعرنا إلى أن مات، فهي السياسة مفسدة وأي مفسدة. تولد الحقد والكره والتآمر. فشاعرنا كان طموحه بلا حدود وكانت (أناه) متضخمة فهو يرى نفسه أفضل أهل زمانه وأن أغلب البشر من أهل زمانه لا يفرق عن الحيوان فكان لزاماً أن يدفع بعض ثمن هذه الأنا وهذا الطموح.