تتباين طقوس وعادات وتقاليد مجالس العزاء ومراسيم قبول التعازي باختلاف الأمم والأجناس والأعراق البشرية، بيد أنها عند المسلمين مستوحاة من السنة النبوية المطهرة، أو هكذا يجب أن تكون، إلاّ أن واقع مجالس العزاء ومواساة أهالي وذوي الميت لم تسلم حتى عند المسلمين من الطقوس والعادات والتقاليد الدخيلة على تعاليم الإسلام، وما مجتمعنا إلاّ جزء من هذه المجتمع المسلم الذي نحاول أن نستعرض كيف كان حال مجالس العزاء في بلادنا وفي مجتمعنا قبل أكثر من خمسين عاماً، وكيف كان أهالي وذوو المتوفى يسعون بقدر استطاعتهم إخبار معظم أقاربهم وجيرانهم وأحبابهم بوفاة قريبهم، كي يكسبوا أكبر عدد ممكن من المصلين والمشيعين، الذين يشاركون أهل الميت أجر دعائهم له ومشاركتهم جنازته. تكافل اجتماعي كانت مراسيم العزاء في بلادنا إلى وقت قريب -ربما لا يتجاوز الأربعين عاماً- موصوفة بأداء واجب العزاء وصدق مشاركة أهالي المتوفى أتراحهم ومشاطرتهم أحزانهم ومصابهم في ميتهم، والوقوف معهم في متابعة أحوال أبناء الفقيد وذويه، إذ طالما حدثتنا الأمهات والجدات عن صور مثلى للتكافل الاجتماعي والترابط والتراحم الأخوي بين أبناء الجيران والأقارب وأبناء المتوفى، لا سيما أولئك الذين تركوا أطفالاً صغاراً أو أباً أو أماً ليس لهما عائل بعد الله إلاّ الابن المتوفى، هنا تظهر صورة العزاء كما أمر بها الدين الإسلامي، فالتقارب المجتمعي آنذاك كفيل بتحقيق نسبة عالية من التكافل الاجتماعي، الذي تبدو صورته جلية في مجتمعات ذلك الزمان، منذ بلوغ الأقارب والجيران بخبر الوفاة، إذ لا يقتصر الأمر على العزاء ومحاولة التعزي بالصبر والاحتساب بل يسبقه في أن الأهالي قديماً كانوا يشاركون أهل المتوفى في تجهيز جنازة ميتهم وغسله، كما يشاركونهم في نشر خبر الوفاة سعياً لجمع عدد أكبر من المصلين والمشيعين، ورغبة في زيادة الدعاء وطلب الرحمة على الميت، حينها لم يكن للعزاء مراسيم و"برتكولات" أشبه بالمراسيم التي تعيشها كثير من مجالس العزاء في مجتمعنا الحالي، بل كان البعض يقصر تقديم واجب العزاء على السلام على ذوي المتوفى في المسجد أو في إحدى الطرقات، لكنه في الغالب يحرص على ما فيه أجر له وللميت في حضور الصلاة والتشيع والدفن، مع حرصه على تلمس حاجة ذوي المتوفى والسعي في حوائجه وحوائج أبنائه. مائدة العزاء مختصرة وتجمع أهل الميت من دون تكلفة مشاركة وجدانية وما الدهر إلاّ هكذا فاصطبر له رزية مال أو فراق حبيب لم يكن تقديم واجب العزاء آنذاك موقفاً عابراً، بل كان فرصة "للمطوع" لموعظة الحضور وتذكيرهم بفناء الحياة الدنيا وقصرها، وضرورة الإسراع والتعجيل في دفن الميت، والحرص على ذكر محاسنه وجميل أفعاله، دون التقيد بطقوس أو مراسيم محددة، كجلب القراء والوعاظ، إلاّ أن يحدث ذلك عفوياً دون ترتيب مسبق، أو تكرار يوحي بوجوب مثل هذه الأفعال، هذا مع مراعاة الأحوال النفسية والمعنوية لذوي المتوفي وأبنائه، وهو ما كان لدى الأجداد حيث يتقاسمون محاسن ميتهم وجميل أفعاله، ناهيك عن المسارعة لتلمس حاجات أبنائه وأهله وتقديم الطعام لهم دون إشهار الولائم والتوسع فيها أو شد الرحال إليها، وعليه فقد كانت الوجوه صادقة في تعابير الحزن والأسى، وعليه فقد كانت المشاركة بالمشاعر لا بالمظاهر، بحيث يطغى الشعور الصادق على قيم أداء الواجب الاجتماعي، فصدق المواساة وتقصي حاجات ذوي المتوفي كان شعوراً حاضراً في عزاء زمان، وربما كان ذلك نظير التقارب الأخوي بين أهالي البلدة الواحدة، الذين هم أعلم وأعرف بأحوال بعضهم البعض، وربما كان لتقاربهم المعنوي والمادي وحتى المكاني دور آخر زاد كثيراً في شعورهم وتعاونهم، وقد قال "الزين بن المنير" في ضوابط الجلوس للعزاء "الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخايل الحزن ويؤذن بأن المصيبة عظيمة". واجب العزاء لا يزال موجوداً ولكن وسائل التعبير عنه اختلفت بين الحضور الشخصي واستخدام التقنية موائد وقهوجية في عصرنا الحاضر تبقى المشاعر الأحزان والتعازي صادقة كما هي إذ لا ريب أن الإنسان مجبول على صدق محبته لذويه وأقاربه وخلانه؛ ففراق الأحباب والأصحاب ينكث في أعماق النفوس الكريمة حزناً وأسى على فراق من تحب، بيد أن مظاهر وطقوس وعادات تقبل العزاء في عصرنا الحاضر وفي مجتمعنا أصبح مظهرياً في معظم أحواله وظروفه، إذ تسابق الناس إلى فتح أبواب منازلهم في مظهر يوحي بالاحتفال لا بالعزاء، خاصة حين يصاحب ذلك عقود الإنارة وموائد الطعام و"البوفيه المفتوح" وطاقم "القهوجية" وكأن الأمر أصبح ميداناً خصباً لاستعراض مظاهر الكرم العربي حين يضرب السُرادق، ويُستقبل ذوي الميت "معازيمهم" عند باب الدار مرحبين بمقدمهم، ناهيك عن ضحكات البعض هنا وهناك وتزاحم نغمات الجوال وانغماس بعض الحضور في الحديث عن أمور الدنيا، ومسارعة البعض الآخر للإعلان عن عزائه لذوي المتوفى عبر الصحف والجرائد أو عن طريق رسالة عابرة عبر جواله المحمول، حتى إن بعضاً من الأقارب والجيران يجدون في العزاء فرصة للتلاقي في الوقت الذي يشكو منه أبناء هذا الزمان من تباعد القلوب قبل تباعد الأجساد. مثل هذه الطقوس "الاحتفالية" للعزاء -وإن انتشرت بين أبناء مجتمعنا الحالي- لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمها على كافة أفراد وفئات المجتمع؛ فانتشارها عند بعض الفئات والأسر، خاصة في المدن الكبرى لا يعني -أبداً- التقليل من مشاعرهم الصادقة تجاه ميتهم، أو أنهم راضون على مثل هذه المظاهر التي ابتلي فيها مجتمعنا، لا سيما وأن البعض يربط بينها وبين حسن استقبال الضيوف وضرورة تقديم واجب الشكر لهم وإكرامهم على شعورهم النبيل ونزولهم في محله. تواصل بين النساء في القرى للوقوف مع الأرملة حتى تتجاوز مصيبة الفراق * «جزاء سنمار»..! رغم إيماننا التام بأن كل ما يصيب ابن آدم إنما هو قدر مقدر من الله سبحانه، إلاّ أن ابن آدم الذي أمر بالحيطة والأخذ بالأسباب ربما استدعى لنفسه المهالك ورمى بنفسه إلى المخاطر، وهذا ما فعله الوزير العباسي "عبدالملك الزيات"، حينما أمر الصنّاع أن يبنوا له تنوراً يعاقب فيه المخالفين حسب رأيه، ويقدر الباري سبحانه أن ينتهي العمل من هذا التنور مع وفاة الخليفة العباسي الواثق وتولى الخليفة المتوكل الذي كان على خصام شديد مع الوزير"الزيات" ما دعاه أن يأمر بوضعه في التنور الذي بناه للناس، حتى إن أحد الندماء مرّ عليه وهو في تنوره وأمامه السجان فقال له: ما هذا يا سيدي لقد خبزوك بالتنور الذي أردت أن تخبز الناس فيه، فرد عليه الوزير قائلاً: ما نفع البرامكة ما فعلوا. فقال له النديم: بل نفعهم ذكرك لهم وأنت في هذا الحال. وإعدام الطبيب الفرنسي "جوزيف غيلوتن" أبان عهد "الرعب" في فرنسا -قبل قرنين من الزمان- يذكرنا بطريقة إعدام الوزير "الزيات" كما يعيد إلى أذهاننا قصة المثل العربي "جزاء سنمار"، لا سيما وأن "غيلوتن" توفي في نفس الآلة التي اخترعها، والتي شاعت بين الناس باسم "المقصلة"، وكان اختراعه لها زمن الإمبراطور لويس السادس عشر الذي اعتمدها ووافق على العمل بها فكان هو أيضاً من ضمن ضحاياها، وكذلك زوجته "ماري انطوانيت"، وذلك رغم أن بعض الروايات تنفي مقتل الطبيب "غيلوتن" بالمقصلة مع تصديقها لمحاكمته، لسبب أن عهد "الرعب" انتهى بنهاية الرجل الشرير "روبسبير" الذي نُقل هو الآخر إلى المقصلة والدماء تسيل من فكيه، بعد أن كان يرسل لها أرتال المساجين ليلقوا حتفهم على منصتها الخشبية، وهو الذي كان قبل الثورة وقبل تسلمه سدة الأمور في باريس ينادي بمحاربة العقوبات العنيفة، وبموت هذا الفيلسوف الدموي "روبسبير" تسنح الفرصة للطبيب "غيلوتن" للخروج من السجن بعد أن كان يفصله عن الصعود على أعتابها أيام معدودة، والقائلون بوفاة "غيلوتن" بالمقصلة يتذكرون قصة المثل العربي الشهير الذي يروي قصة قتل "النعمان بن منذر" للمهندس "سنمار" الذي بنى له قصر"الخورنق" ثم باح له بسر تلك الطوبة التي لو أزيحت لسقط القصر بكامل مرافقه، حينها سأله النعمان هل يعرف هذه "الطوبة" شخص غيرك يا سنمار؟؛ فقال له: كلا أيها الأمير، فما كان من النعمان إلاّ أن أمر بإلقائه من أعلى القصر، عندها راح "جزاء سنمار" مثلاً دارجاً بين العرب دالاً على الخيانة ونكران الجميل. * خزانة الرؤوس في بغداد كانت خزانة الرؤوس في بغداد في القرن الرابع الهجري تمثّل عهداً آخر من الرعب، حيث يرمي الحاكم أو الوزير برؤوس خصومه في غرفة ذات أرفف تجمع فيها رؤوس المناوئين وكبار الخارجين عن النظام من رجال السياسة والجيش، وكانوا يعلقون بطاقة على كل رأس للتعريف بصاحبه، حتى أن بعض الرؤوس كتب على بطاقتها "هذه الرأس قطع بتوقيع هذه اليد"، وكانت اليد المقطوعة يد الوزير العباسي صاحب الخطوط العربية الشهيرة "ابن مقلة" التي طالما بكاها وهو في السجن، ورثاها في قصائد مبكية لعل أشهرها تلك القصيدة الشهيرة التي يقول في آخر بيت منها: ليس بعد اليمين لذة عيش يا حياتي بانت يميني فبيني وكان "ابن مقلة" قد حُبس وقُطع لسانه، وصوّر المؤرخون حاله وهو في السجن ينزل الدلاء إلى البئر ويمسكها بأسنانه في وضع أشفق عليه خصومه، لا سيما وأنه كان من ذوي اليسار والمال بل كان وجيهاً من وجهاء بغداد في زمانه، ناهيك أنه كان خطاط لا يجاريه في صنعته إلاّ ابن البواب الذي توفي عام 413ه، وياقوت المستعصمي الذي توفي عام 698ه، في حين كانت وفاة "ابن مقلة" عام 329ه، وقيل: 328ه. ومن عجيب "ابن مقلة" أنه تقلد الوزارة ثلاث مرات، وسافر طيلة عمرة ثلاث سفرات، ودفن بعد موته ثلاث مرات، الأولى في دار السلطان والثانية في داره، ثم أُخرج فدفن في مكان مجهول، وكانت زوجته أمرت بذلك حين خشيت أن يعمد خصومه إلى نبش قبره -رحمه الله-. سر من قرأ * أدركته حرفته كانت العرب تقول لمن قتل بطمعه "أدركته أمنيته"؛ أي أدركته مطامعه وأحلامه، ويستشهدون بهذه العبارة مع كل حادثة يعيشونها أو خبر يسمعون به ولذا قال أبو العتاهية: ما كل ما يتمنى المرء يدركه رب امرى حتفه فيما تمناه وكان ابن المعتز يقول: ألا يا نفس إن ترضي بقوت فأنت عزيزة أبداً غنية دعي عنك المطامع والأماني فكم أمنية جلبت منية والغريب أن "ابن المعتز" -الأديب والشاعر العباسي المعروف- مات فيما تمناه، حين رشحه ابن حمدان (جد سلاطين الدولة الحمدانية) لمنصب الخلافة فوافق "ابن المعتز" وسارت له الأمور في نهار ذلك اليوم كما يحب، ولكن مع حلول المساء تم القبض عليه وأودع السجن ثم قُتل وهو لم يبرح ربيع عمره وعنفوان شبابه، وقال حينها المؤرخون ما معناه "أن ابن المعتز هو الخليفة الوحيد -إن صحت خلافته– الذي تولى الخلافة لأقل من (24) ساعة"، ولم يستطع أحد أن يرثيه خوفاً من بطش خصومه إلاّ أن "ابن بسام" الشاعر الهجاء الذي لم يسلم من هجائه أقرب الناس إليه -حتى والده- كان أكثر أهل زمانه جرأة حين رثى "ابن المعتز" في قصيدة قال في آخرها: لله درك من ميت بمضيعة ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لو ولا ليت فتنقصه وإنما أدركته حرفة الأدب وكان العرب يقولون "أدركته حرفة الأدب" كناية عن العوز وضيق الحال وقلة ذات اليد، ولهذه العبارة تفسير طويل عند الأدباء وأهل اللغة، إلاّ أن قولهم "أدركته أمنيته" ظل مرتبطاً بسماعهم لخبر مقتل "كسرى" على يد ابنه الذي توفي بعد قتله لوالده بستة شهور والذي أراد الملك والسلطنة فألحقته أمنيته بمنيته، وكذلك كان الحال مع "المنتصر العباسي" الذي قتل والده وجلس على عرشه فما لبث أن توفي بعده بستة شهور أيضاً، وقال لوالدته وهو على فراش موته "يا أماه عاجلت أبي فعوجلت.. خسرت الدنيا والآخرة"، وقد روى"ابن النديم" أن "عمرو بن بحر الجاحظ" مات بسبب سقوط مكتبته عليه رغم أن المتواتر في وفاة الجاحظ أنه توفي وقد جاوز التسعين من عمره، وكان يعاني في آخر سنوات عمره من مرضي النقرس والفالج الذي ربما نتج عن جلطة عطلت نصف جسده عن الحركة، ولذا فقد روي أنه كان يقول لمن يسأل عن حاله: "إنني بين شقين لو وقع الذباب على أحدهما لما برحت من الألم ولو قطع الآخر بالمناشير لما شعرت به".