سوريا لم تعد سوى بيدق في لعبة شطرنج كبرى، يُعاد فيها بناء جديد، ومعه نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، كما حدث غداة الحرب العالمية الأولى. «جنيف-2 سيكون أضخم مؤتمر دولي حول سوريا، لكن دون سوريين». هذه قد تكون المضمون الحقيقي لمؤتمر جنيف- 2، الذي يفترض أن يعقد في سويسرا في 22 كانون الثاني/ يناير الحالي، ما لم تطرأ تطورات مفاجئة تؤدي إلى تأجيله مرة أخرى، كما حدث مراراً منذ انتهاء مؤتمر جنيف- 1 في حزيران/ يونيو 2012. ببساطة، لأن الأطراف السورية التي تُمسك الآن بخناق بعضها بعضاً، تبدو كزوج وزوجة وصلت علاقتهما إلى ذروة الكراهية إلى حد التخطيط لقتل بعضهما البعض. ومع ذلك تتدخل «سلطة عليا» لتجبرهما مكرهين على الجلوس إلى طاولة لا يريدانها، وليتفاوضا حول حلول لا يبغيانها. فالمعارضة السورية، بكل أطيافها السياسية المتباينة وألوانها السياسية المتطايرة، تشترط سلفاً أن يسفر جنيف – 2 عن رحيل الرئيس بشار الأسد وحلول حكومة انتقالية مكانه. وهي تفسّر قرارات مؤتمر جنيف-1 في حزيران/ يونيو 2012 على أنه لا يعني غير هذا الأمر بالتحديد. هذا في حين أن نظام الأسد يرفض كل أصناف المعارضة، ويصنّف غالبيتها الكاسحة على أنها إما إرهابية أو تكفيرية أو عميلة للخارج. كما أن الأسد نفسه أبدى بوضوح خلال الأسابيع القليلة الماضية ليس فقط رفضه التنحي، بل أيضاً رغبته في الترشح مجدداً للرئاسة التي ورث من والده على عرشها منذ العام 2000. فقبل نحو خمسة أشهر، كان النظام يزج كل أوراقه الاستراتيجية تقريباً في أتون المعركة: من مشاركة حزب الله اللبناني (ما بين 5 إلى 7 آلاف مقاتل وفق تقديرات رسمية فرنسية) في المعارك، إلى دخول وحدات كاملة من الحرس الثوري الإيراني (كقوات تدريب ودعم ولوجيستيك) إلى الخدمة الفعلية والمباشرة مع الجيش النظامي السوري، مروراً بتدفق آلاف الشيعة العراقيين والباكستانيين وغيرهم للمشاركة في القتال إلى جانب الميليشيات المذهبية التي شكّلها فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. علاوة على ذلك، كان النظام يوظّف كل الطاقات التكنولوجية العسكرية والأمنية الروسية والإيرانية (التخطيط العسكري، واستخدام المدافع المدارة إلكترونياً والطائرات دون طيار، وتطوير عمليات القيادة والربط والاتصالات.. إلخ) في عمليات الهجوم الواسعة التي تم تنفيذها على مدى الشهور الأخيرة. كل هذه التوظيفات أثمرت عن بعض الانتصارات للنظام وحلفائه. فبلدة القصير الاستراتيجية على الحدود مع لبنان، التي تشكِّل عقدة الوصل بين مثلث حمص ودمشق والساحل، سقطت خلال عملية عسكرية منسّقة بشكل جيد. كما سقط أيضاً حي الخالدية المحوري في حمص، الأمر الذي جعل احتمال سقوط الأحياء القديمة في هذه المدينة التاريخية التي شكّلت مركز المقاومة المسلحة السورية قبل نحو ثلاثة أعوام، أمراً ممكناً وإن صعباً.. كما باتت وارداً أيضاً فرص إعادة فرض السيطرة على ريف دمشق، الذي اتجهت نحوه جهود قوات النظام وحزب الله، بهدف استكمال الحزام الأمني الذي أُريد منه حماية معاقل النظام غرب سوريا في المناطق الساحلية ذات الأغلبية العلوية. هذه الإنجازات العسكرية كانت وراء النبرة التفاؤلية، التي اجتاحت كبار المسؤولين السوريين في الآونة الأخيرة. فالرئيس الأسد خرج ليعلن أن «النصر بات وشيكاً»، فيما كان وزراء وقادة عسكريون سوريون يدعون إلى توقُّع انتصارات عسكرية جديدة من شأنها حسم حصيلة الحرب الراهنة. بيد أن هذه اليوفوريا (الفرح الغامر) تبددت بين ليلة وضحاها. نقطة البداية كانت مع نجاح المعارضة المسلحة في السيطرة على مطار منغ الاستراتيجي، في إطار عملية عسكرية كبرى ستكون لها لاحقاً مضاعفات استراتيجية على كل من قدرة المعارضة على تحرير أقسام من وحداتها لاستكمال معارك مدينة حلب والشمال، وعلى شيعة سوريا الذين قال حزب الله اللبناني إنه دخل لحمايتهم، لأن مطار منغ يشرف على قرى تعج بعشرات آلاف المواطنين الشيعة. بيد أن المفاجأة الكبرى تمثّلت في الهجوم الكاسح، الذي شنته قوات المعارضة في ريف اللاذقية واحتلت خلاله 11 قرية علوية. كما اعتقلت أكثر من 400 مواطن من الطائفة العلوية لم يتمكنوا من الفرار من أرض المعركة، وباتت على بعد عشرين كيلو متراً فقط من بلدة القرداحة مسقط رأس آل الأسد قبل أن تضطر إلى الإنسحاب. هذه العمليات لم تغيّر موازين القوى العسكرية في الساحل السوري، بدليل تمكّن النظام لاحقاً من استعادة السيطرة على القرى ال11. إلا أن الضربة المعنوية له كانت قاسية للغاية. فهي أثارت الشك في أوساط الطائفة العلوية نفسها حول مدى قدرته على حمايتها كما كان يدّعي منذ اندلاع الانتفاضة. كما أنها (الضربة) ربما تدفع قطاعات من المؤسسة الأمنية – العسكرية النظامية إلى بدء الاقتناع بأن آل الأسد غير قادرين على حسم المعركة لصالحهم، وعلى تحقيق «النصر النهائي». وفي الوقت نفسه، كانت جبهة المعارضة تشهد هي الأخرى شروخاً خطيرة أطلق عليها البعض اسم «الحرب الأهلية الثانية» بين السنّة والسنّة، داخل الحرب الأهلية الأولى بين السنّة والعلويين. فقد انفجر الصراع بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وبين كل التنظيمات المقاتلة الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية، بما في ذلك جبهة النصرة شقيقة الدولة الإسلامية في إطار تنظيم القاعدة الأم. وهكذا تحوّلت منطقتا الشمال والشرق في سوريا إلى جبهة قتال شاسعة بين قوى المعارضة، جعلت احتمال النصر ضد نظام الأسد مجرد أضغاث أحلام. هذه التطورات المحلية السورية، جنباً إلى جنب مع التبعثر الأسطوري للمعارضة السياسية في الخارج، أخرجت الحرب في سوريا من سياقها الداخلي ووضعتها برمتها تقريباً في أحضان القوى الدولية والإقليمية. ومنذ ذلك الحين، بات قرار الحرب والسلام في بلاد الأمويين يمر في واشنطنوموسكو، وصولاً حتى إلى أقاصي الشرق الآسيوي في بلاد الهان (الصين). جيمي كارتر، الرئيس ال39 للولايات المتحدة، عبّر عن حقيقة التدويل والأقلمة (من إقليم) الكاملة للأزمة السورية بالقول إن «الحرب السورية باتت حرباً لا تُربح. ولأن القوى السورية ترفض بعضها بعضاً، فإن مفاوضات مؤتمر جنيف – 2 قد تفشل. ولذا، لا مناص من منح الأولوية للحلول الخارجية، وبالتالي من قيام الدول الكبرى بفرض الحلول على السوريين». وهذا ما رآه أيضاً خافيير سولانا، مسؤول الشؤون الأمنية والخارجية السابق في الاتحاد الأوروبي، الذي قال إن «نفض الغبار عن قرارات جنيف- 1 بعد سنة من توقيعها خطوة إيجابية، لكنها عرضة إلى مخاطر جمة قد تطيح الكيان السوري نفسه وتفجر الوضع الإقليمي برمته. ولكي يتجنّب الغرب هذا المصير الذي يهدد مصالحه، يتعيّن عليه تصعيد مناوراته الدبلوماسية وجعل إنهاء الصراع على رأس أولوياته بدل أن تكون الطموحات السياسية لدوله هي هذه الأولويات، كما الأمر الآن (…)». بالتأكيد. لكنه يبدو أيضاً كلاماً رغائبياً إلى حد كبير. أو هو على الأقل ينتظر مآل الصفقات على جبهتين متلازمتين: جبهة العلاقات الأمريكية – الروسية، وجبهة الحوارات الأمريكية – الإيرانية. على الجبهة الأولى، برزت متغيرات واضحة خلال الشهرين الماضيين. فقد تمكّنت واشنطنوموسكو فجأة من إبرام صفقة لم تخطر على بال، حين توافقتا على تفكيك الترسانة الكيميائية السورية «في أسرع وقت ممكن»، وبالتالي على وقف الضربة الجوية – الصاروخية الأمريكية المقررة ضد النظام السوري. وهذا فتح الأبواب على مصراعيها أمام العاصمتين كي توصلا ما انقطع بينهما من مساومات حول الأزمة السورية العام 2012. وهكذا وّلدت صيغة مؤتمر جنيف- 2، وألمح كل من الوزيرين لافروف وكيري أن أي طرف سوري يعارض حضور هذا المؤتمر «سيتعرض إلى عقوبات روسية وأمريكية صارمة». الوفاق الروسي – الأمريكي حيال سوريا شمل أيضاً استعداد واشنطن لمنح موسكو الدور الأبرز في حل الأزمة السورية، هذا علاوة على الوفاق الأهم المتعلق بحربهما ضد منظمات التطرف الإسلامي التي اجتاحت المشرق العربي. بيد أن فتح الأبواب لم يعن تبخر التباين في وجهات النظر حول طبيعة الحلول في سوريا. وهنا دخلت على الخط معطيات الجبهة الثانية، أي الحوارات الأمريكية – الإيرانية. فقد كانت طهران، ومعها موسكو، تضغطان بقوة لتحويل الاتفاق النووي الإيراني – الغربي إلى مدخل لاتفاقات إقليمية حول مسألة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. موسكو تحمست لهذه الفكرة ليس لأنها تعتبر إيران حليفاً يعتد به (الشكوك حول النيات بين البلدين تاريخية كما هي آنية وإيديولوجية)، بل لأنها تعرف أن نفوذها على النظام السوري لا يكتمل دون ضوء أخضر إيراني. بيد أنه لم يكن وارداً بالنسبة إلى واشنطن قبول مشاركة إيران في جنيف- 2 لسببين مقنعين: الأول، أن إيران كانت ستسعى في حال حضورها المؤتمر إلى نسف مقررات جنيف – 1، لأنها تعتبر بقاء الأسد في السلطة (حتى إشعار آخر) ورقة ثمينة لا يجب التفريط فيها بسهولة. والثاني، أن واشنطن ليست مستعدة لا الآن ولا بعد عقدين لاستبدال تحالفاتها الخليجية بحلف إقليمي منفرد مع إيران. كل ما تريده إدارة أوباما في هذه المرحلة هو سحب أمريكا من جلجلة حروب «مبدأ كارتر» التي جعلها قوة إقليمية تدخلية في كل شؤون الشرق الأوسط، ووضعها في سفينة قيادة حربية قبالة الشواطئ المتوسطية لتدير من هناك كالمايسترو لعبة موازين القوى من بعيد. الباحث الأمريكي، الإيراني الأصل، راي تقية، أوضح هذه النقطة بالتحديد، حين شدّد على أن أمريكا «في حاجة إلى صفقة نووية مع إيران، لكن ليس إلى وفاق (إقليمي) معها. وهو حذّر من أن إيران، كما الاتحاد السوفييتي قبلها، قد تحاول فهم اتفاقات الحد من التسلّح على أنها تأشيرة دخول إلى عملية توسيع النفوذ الإقليمي، خاصة في سوريا إضافة إلى العراق». من هنا جاء رفض كيري لمشاركة إيران في جنيف-2 قبل أن تعلن هذه الأخيرة أولاً موافقتها على قرارات جنيف- 1 حول عملية انتقال السلطة، بما في ذلك تحديد مصير رئاسة الأسد. وهذا ما يجعل الصراع حول سوريا، سواء عبر مفاوضات جنيف- 2 أو خارجها، صراعاً في الواقع على مستقبل الشرق الأوسط برمته وفقاً لموازين القوى الدولية والإقليمية الجديدة فيه. إنها تعني، ببساطة، أن جنيف-2 سيكون في الواقع مجرد «استراحة محارب». فترة هدنة بين حربين. أو على الأقل منبراً تطرح فيه القوى الدولية والإقليمية المعنية شروطها وشروطها المضادة، ومطالبها الخاصة بالنفوذ في الإقليم الشرق أوسطي. أما سوريا نفسها، فستبقى بيدقاً في لعبة شطرنج كبرى جديدة يفترض أن يولد من رحمها نظام جديد، بدأت معالمه تتضح شيئاً فشيئاً في استراتيجية الاستدارة الأمريكية شرقاً نحو آسيا (Pivot)، وفي التحالف (المؤقت) الصيني- الروسي لتقليم أظافر الزعامة الأمريكية في العالم عبر كلٍ من سياستي «القضم التدريجي» الروسية الشهيرة و«الصبر التاريخي» الصينية الأشهر، وفي بروز مجموعتي العشرين والبريكس كبديل عن مجموعة السبعة الكبار الغربية (مع روسيا لاحقاً) التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحين يبرز هذا النظام الجديد، الذي يجد الآن في جنيف- 2 أحد تمخضات ولادته، قد ينجلي المشهد عن خريطة شرق أوسط جديدة «سايكس وبيكو»، ويعاد رسم الخرائط.