في لحظة صفاء وتصالح مع كل ما يحيط بي جلستُ قريبا من نافذة المقهى الحميم القابع في الدور الثاني المطلة على طريق مزدحم والمساء قد بدأ يخفي دفء الشمس وحبات من المطر تغسل زجاج النافذة . أخذت أتجول ببصري في كل شيء ، الأرصفة المبتلة ، والوجوه العابرة ، وطائر يتنقل من شجرة إلى أخرى قريبة . مع رائحة القهوة التي تعصف بالمكان وبعض الدفء .. شدني منظر شجرة فوق رصيف كئيب وأوراقها المصفرة وكأنها تستعد للرحيل . ذكرتني بوجوه الأصحاب أو من كنت أظنهم أصحابا .. وجوه تساقطت واندثرت ولم يعد من ذكراهم غير لحظات مختلطة لا ملامح لها . مؤلم وأنت تفتش بين أوراقك عن أسماء كانت تتصدر معالم وجهك ، وضحكتك ، وجلساتك ، وحتى أحلامك فتكتشف أنها تساقطت كأوراق تلك الشجرة الغافية فوق الرصيف وكأن الأعوام تطويهم كما تفعل مع العمر.على الزجاج ارتسمت وجوه عبرت مفترق الطريق المؤدي إلى حافة النسيان .. كانت الملامح ضبابية والمشهد بعيد ، ولكني كنتُ أعرفها . تساءلت وأنا أحرك قطعة السكر داخل فنجان قهوتي السوداء إن كانت هذه الوجوه ما زالت تحتفظ بوجهي أم أن النسيان قد مد أغصانه هنا وهناك ؟ شعور يتملكك أقسى من لفحة برد تصفع وجهك ، وأمر من قطعة ملح صخري تقذف داخل فمك رغما عنك .. شعور فقدك للبشر الذين لونوا حياتك بعد أن كانت مجرد قطعة جامدة لا يرى منها غير الألوان القاتمة .عندها فقط تنكس رأسك والحزن يقتات من ساعاتك التي تلاشت بين نبضك الخافت وأصواتهم البعيدة وفي داخلك صوت يهمس لك هل ما زلت تقف على نفس مفترق الطريق الذي غيبهم ؟. وفي خضم كل هذه المشاهد المحتدمة خلف زجاج .. يأتي صوت النادل من خلفي محدثا بعض الربكة وهو يخبرني بأن وقت الصلاة قد حان وإنه يجب علي أن أودع النافذة الذي حبستُ وجهي بين أضلاعها كل هذا الوقت . خرجت وحيدا كما دخلت ، ومشيت وحيدا كما يفعل الكثير من المارين فوق أرصفة الحياة .. امتزج وجهي بوجوههم لعل في هذه اللحظة من ينظر إلي كما كنت أفعل أنا.