الطفل الذي تجمد البارحة في المخيم السوري، لم يخطفه الثلج من حضن أمه التي استيقظت ووجدته فارق الحياة، لم يكن البرد من سرق روحه وطار بها، لم يكن الطقس، ولا ما تسرِّبه الخيمة من صقيع… الموت يتزيّاً بثوب أبيض هذه المرة، بعد أن استنفد حيله كلها، بعد أن جاء مرات عديدة متنكراً؛ في ثياب عسكرية، وثانية بلحى طويلة، وأخرى بمساعدات مدنسة بالسم والبارود.. كأنه العصفور الذي طرق زجاج النافذة منذ الفجر، ولما آويته بعد تردد مات بين يدي، كأنه يفسِّر لي بلا مجاز ولا مبالغات، أنه يموت بسبب تلك البرهة من التردد والتفكير، وأنه لا حاجة إلى مأوى يسبقه التردد، كأنه الميت بلا ضجة ولا صراخ، يدفن رأسه تحت جناحه، يميل على جنبه ويقطع النفس. كان الطفل أحن على أمه، لم يربك تعبها ولا أقلق منامها، فلم يبكِ ولا تعلق برقبتها، أخذ زاوية صغيرة في الخيمة ونام إلى الأبد، دون أن يتحول إلى أيقونة إخبارية، ولا احتاج إلى موسيقى حزينة لتتناقله الروابط في اليوتيوب تسبقه دعاية يمكن تجاوزها بعد خمس ثوانٍ؛ خمس ثوانٍ كانت كافية لحلمه الأخير. لا أذهب مع من يريد أن يتملَّص من الذنب، بإلقاء المسؤولية على الجميع، دون استثناء، تلك طريقة لم تعد تنفع للخلاص والتطهير، سأشير بسبابتي بوضوح تام، سأكتب أسماء المجرمين على ورقة وأضعها في شقوق الروح، لن أغفر ولن أنسى أبداً… شوَّهتنا الأنظمة الحاكمة، ولطَّخت حياتنا، ليصبح بيننا المجرم والمعتوه، ربَّت الحقد وهيَّأت أدوات الثأر، ليتحول الفلاح إلى جندي يطلق سلاحه في صدر أخيه، والعدو على بعد خطوة، لن يفكر ولن يسأل عن اتجاه بندقيته، كل ما تبرمج عليه هو أن يضغط على الزناد عندما يُعطَى الإشارة، في اتجاهنا دائماً. أنظمة تصرف على السلاح وعدة القتل، تغذِّي المكائد وتُنتج تبشيع الحياة، تغدق على الخونة والمفسدين، تضخُّ في نشر الظلام، تنفخ في النار بين ظهرانيها، وتموِّل الأعداء. مرة باسم الوطن، ومرات باسم الله؛ نقتل على الهوية، بلا وسيط غريب، يقف الموت على رأس الطفل، وينحره فداء لفكرة فاسدة، ضحيته التي يقدمها قرباناً لأصنامه الغامضين. حماقات نساهم في تجييشها كلما غضضنا الطرف عن القريب منا، المسؤول مباشرة في هذه المذابح التي تستعاد كل يوم. ليس الثلج إذن، وليس الموت حتى، هؤلاء أطفال لم يرتكبوا أخطاءهم بعد، أمهات يلهجن بالدعاء، ولم تعرف قلوبهن سوى الحنان، من الذي يستبدل هذه القلوب بصخر، ويطلب الغفران. الذي ربَّى الوحش وأطلقه علينا، الذي حول الفتية إلى مجانين وخرقوا السفينة، هو الذي سيقفز منها ويحاول الفرار في آخر لحظة لينجو بحياته، ويتركنا غرقى في حمأة الحقد والغضب. يموت الأطفال في المخيم السوري، جراء ترددنا في الإشارة إلى القاتل الحقيقي.