بين تارة وأخرى تبرز مشكلة هنا ويحدث توتر هناك فيما يرتبط بالمشهد الثقافي المحليّ، التي باتت تؤرق المشتغلين بالفعل أو النظرية الثقافية لدينا. وفيما يشكل، ما بات يقترب من الظاهرة، أزمة واقعية، عبر ما يمكن وصفه بأنه سجالات عنيفة بين المثقفين، قد تتصل بمفهوم العنف الثقافي أو على الأقل مقدمة إليه، فإنّ المؤسسات ذات العلاقة تغيب عن القيام بدور حيوي يعيد التوازن للمشهد الثقافي، خاصة وأنّ حلقات الصدام تشهد تشظيات وانقسامات منذ فترة ليست بالقليلة، مما يعقّد خطط العلاج الناجع والموضوعي لظروف كهذه غير إيجابية. إن ظواهر الاستقطابات والشللية والاصطفافات في واقعنا الثقافي تكون في غالب مخرجاتها سلبية، ومتحيّزة، وإقصائية، ومتمحورة حول ذاتية الفريق أو رأس الهرم أو ما يتماهى معه، على طريقة «ما أريكم إلا ما أرى». وفي السنوات القريبة ارتفع عدد المنتديات والملتقيات الثقافية، وتزاحمت الأيام بالصالونات التي في غالبها هي معنية بالشأن الثقافي وآفاقه، مع ظهور بعض الملتقيات المتخصصة، في ظاهرة ذات حراك ثقافي لافت. إلا أنّه بعد مضي هذه السنوات، صار الفعل الثقافي يدور في دائرة متشابهة الشكل والمضمون، مما لا يساعد في تقديم فعل ثقافي مزدهر، إضافة إلى ما تمرّ به المرحلة من تنافس غير إيجابي في بعض صوره، مما يهدر كثيرا من طاقة الفعل الإيجابي ثقافياً، وقد ينحسر جزء ليس بالقليل من المنشط الثقافي المؤثر والفاعل عن البيئة الثقافية مجتمعياً. والأمر ينسحب على الأندية الأدبية، التي دخلت لوائحها مرحلة الانتخابات، في تجربة يبدو أنها تحتاج إلى مزيد من التطوير، بسبب ما يكتنف هذه المؤسسات من إشكاليات تعيد الحديث إلى مفردات الشللية والاستقطاب المتمحورة في عملها على دائرة ضيقة من الأسماء. إن الولوج إلى منطقة السلبية في الكفاءة والفاعلية ثقافياً، يجعل من المستقبل جسداً هزيلاً، قد تستنزف قواه العلاجات المزمنة، ويفقد من قدراته الإنتاجية كثيرا من مواقع القوة والتأثير. ومن المؤسف أن كثيرا من المثقفين لا يخرجون عن نخبويتهم، ولا ترى ثمة اندماجاً منهم في المجتمع، مما لا يترك تأثيرهم متجاوزاً دائرة حضورهم المحدود. إن الوهم النخبوي يؤدي إلى الارتباط بنموذج فكري متعالٍ (سوبر بارادايم)، وبهذا تتشظّى الساحة إلى جزر متباعدة، ومنحازة إلى قطبية تقيّد التنمية وتؤجل أو تغيّب التطور الثقافي في منظوره الأوسع. ويبقى العصر شاهداً على كثير من النجاحات في الواقع الثقافي، إلا أنّ الغد الواعد بحاجة إلى قراءة مستقبلية تستشرف النجاح والإنجاز والتميز في الواقع الثقافي الذي يتجاوز الإشكاليات التي قد تتسبب في فقد كثير من مكونات القوة والريادة معرفياً وثقافياً. إن وصف البعض للمثقف بأنه سلْطة خامسة، في معنى رمزي للدور التنويري في الواقع الذي يفترض أن يوجه نحوه رسالته الثقافية، ولا يعني وصاية قد يعشقها البعض من خلال تعلقهم بمعاني هذا الوصف المخاتل. إن أحد وجوه العنف الثقافي لدينا هو ما يأتي تحت تشكلات التفارق والغياب أو القطيعة والبعد عن بعض حين تسود الواقع روائح الإقصاء والتغييب أو التسلق واختطاف الفعل الثقافي.