إن ما شهدته المملكة العربية السعودية من أحداث دامية راح ضحيتها خيرة من أبناء الوطن المدنيين، وحراسه الساهرين على أمنه وسلامته لتعبر بحق عن محاولة الإرهاب والإرهابيين التسلل إلى داخل المملكة لزعزعة الأمن والاستقرار فيها، وليهدموا ما بناه المغفور له بإذن الله: الملك عبدالعزيز الذي سار على نهج أجداده الغر الميامين، ورسم الطريق لمن بعده من أبنائه البررة المخلصين، من أن الرب واحد والوطن واحد والشعب واحد. ولكن والله وتالله وبالله، ووفاء لدماء هؤلاء الشهداء المدنيين والعسكريين، لن يتحقق لهم ما يريدون، وستقف لهم المملكة حكومة وشعباً بالمرصاد في إطار من التكامل واللحمة الوطنية، لنمنع جميعاً - سنة وشيعة، مواطنين وعسكريين - كل من تسول له نفسه سوءاً بهذا البلد الذي نذر نفسه ليقيم شرع الله وشريعته. تحية إعزاز وتقدير لشهداء الوطن من رجال الأمن، الذين سالت دماؤهم فداءً لوطنهم، ونحسبهم عند الله من الشهداء، فلهم - بإذن الله - جنة الخلد، ولمن باع وطنه الحساب يوم نقف جميعاً أمام رب العباد، ولن تضيع دماؤهم هباء، فالوطن لأعدائه كالشهب المحرقة ليس داخل المملكة فحسب، بل ضد الإرهاب حيثما وجد. وتحية خالصة لقائد هذه الأمة وراعي الإسلام والعروبة، والذي تنبأ بخطورة هؤلاء الإرهابيين، فكانت له مواقفه الرشيدة في التعاطي مع كل من يحاول النيل من أمته وأمنها. فعلى من يحاولون إشاعة الفوضى في وطننا لصالح تحقيق أهداف مشبوهة أو أوهام زائفة، وذلك من خلال التخطيط للعمليات الإرهابية أو تمويلها أو تنفيذها أو تشجيعها، أن يتوبوا إلى الله، وأن يعلموا أن الإرهاب ليس له دين ولا عقيدة، ولا يخضع لقواعد أو نظم، وهو يأتي على الأخضر واليابس، ولا يفرق بين أبناء الوطن الواحد، وقد ينقلب على من يدعمونه، وليتذكروا ما حدث ويحدث في العديد من الدول المجاورة، والتي تمكن الإرهاب منها، وعانت من ويلاته، وسالت دماء أبنائها، ولم يعد يعرف صاحب الحق من الظالم، بل أضحوا جميعاً لا يستطيعون الفكاك من النيران التي أشعلوها أو سكتوا عنها ولم يطفئها عقلاؤهم. لا شك أن للوطن رجالا شرفاء يعكفون على وضع الإستراتيجيات، والبرامج الملائمة التي تكفل دعم أمنه واستقراره، ودحر أعدائه من الإرهابيين. ونتصور أن تلك الإستراتيجيات يجب أن تبنى على التكامل والتعاون بين جميع أبناء الوطن ومؤسساته الاجتماعية والأمنية والإعلامية والسياسية. كذلك يجب أن تتعامل تلك البرامج مع كل المنابع التي يمكن أن يتسلل منها الإرهابيون إلى داخل المملكة، سواء الفكرية أو الجغرافية أو السياسية أو الأمنية. ومن ثم فإن مواجهة الإرهابيين لا تعتمد على إحدى مؤسسات الدولة دون غيرها، ولا على الجانب الأمني وحده دون بقية الجوانب. فمسؤولية مكافحة الإرهاب هي مسؤولية جماعية في المقام الأول، لا تقتصر على فئة دون أخرى ولا على دولة دون أخرى. ولعل مما يمكن طرحه هنا من أفكار، ما يلي: أولاً: ينبغي وضع إستراتيجية إعلامية تمنع الإرهابيين من تحقيق أهدافهم وتنفيذ نشاطاتهم الإجرامية، وتقف بحزم دون تمكينهم من بث شبههم، ونشر أخبارهم، وتحول بينهم وبين تحقيق مآربهم المتطرفة وأهداف الجهات التي تقف خلفهم وتدفعهم بعلمهم أو بدون علمهم، ويجب أن تقوم هذه الإستراتيجية على التخطيط العلمي الاجتماعي والإعلامي والسياسي والأمني ليس لقهر الإرهاب فقط، وإنما الفكر المتطرف الذي يغذيه. ثانياً: الاستفادة من التجارب الدولية السابقة في مكافحة التطرف الفكري، وذلك من خلال تشخيص وتحديد الظروف والعوامل المختلفة التي أفرزت هذه الجماعات المتطرفة، سواء الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية. وذلك في محاولة للوقوف على أحدث الوسائل المتبعة للحد من التطرف. فمن شأن التشخيص السليم للمشكلة وضع خطط العلاج الملائمة في مدى زمني قصير. ثالثاً: نشر ثقافة التسامح والوسطية والاعتدال بين أبناء الوطن. ويتحقق ذلك من خلال العديد من البرامج التي تحقق اللحمة الاجتماعية وتجمع الفرقاء على تحقيق رفعة الوطن، وتحافظ على أمنه واستقراره. ومن شأن تبني هذه القيم المجتمعية تحقيق التقارب الاجتماعي والاقتصادي بين أبناء الوطن، وزيادة التواصل الاجتماعي والثقافي داخل المجتمع وبين مؤسساته المختلفة، فتتحقق بذلك الشراكة المجتمعية الفاعلة. رابعاً: إنشاء مركز بحثي متخصص لدراسة التطرف الفكري، تكون مهمته الأولى محاربة الفكر المتطرف من خلال دراسة ما يمكن أن يكون قد فهم خطأ، أو التبس على الناس واختلط مفهومه، أو فسر على غير ما أريد له من الفكر السلفي، وتقديم المقترحات لتحديث المناهج بطريقة تتوافق مع أصول الدين الإسلامي المتسامح، والموطد لعلاقة المسلمين فيما بينهم، والمنظم لعلاقتهم بغيرهم، وتوجه أفراد المجتمع نحو صحيح الدين ووسطه، مع ضرورة تبني خطاب ديني معتدل يحصن الشباب من الوقوع فريسة للفكر المنحرف المفضي للكراهية، وتصنيف البشر، على أساس مواجهة الفكر بالفكر. خامساً: الاهتمام بوضع مناهج وأنشطة تربوية وفكرية للأطفال والشباب تحصنهم من الوقوع في براثن الفكر المتطرف الضال، ولتنطلق هذه المناهج والأنشطة في ضوء التجارب الدولية التي تتيح لهم تنمية ملكة الإبداع وتفجير الطاقات، وصرف طاقاتهم فيما يخدم وطنهم، والاستعانة بقدراتهم في دعم جهود الدولة في مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف. نسأل الله أن يحمي وطننا ومواطنيه، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه الخير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير. *عميد معهد الأمير سلمان للدراسات والخدمات الاستشارية بجامعة المجمعة