ما تعانيه البلدان العربية المجاورة من فوضى ودمار وعدمية ليس مجرد تشكل إرهابي يتغيا السلطة التامة والاستبداد باسم الإسلام فقط، فهذا جزء من الحقيقة يمثل الأهداف الحزبية النهائية، بيد أن المكون الصريح لتجسيد البغي بالإنسان يتمثل في الأيديولوجيا الدينية، كونها تمثل تشكل البذرة الأم والأرضية الخصبة لاستمرار حالة الإرهاب الكوني وتهديد السلم العام، وتكمن الإشكالية في ماهية النص المعتمد الذي يفتقد خاصية الثبوت والدلالة القطعية، لأنه عبارة عن تفسيرات تراثية ظنية بل متوهمة، وبقدسية مضللة، أوردتنا جحيم التهم الإرهابية الدينية وحملتنا سوء الحظ والطالع بإرهاب عقدي إسلامي يبيح قتل العالم بل ويستلذ له ليكرهه على الدين راغماً.. وبالنظر لمكونات النص المقدس المفهومية؛ الحال والتاريخ والوقائع والسياق وأبعاد الزمكانية والحالية وجميع ارتباطات شروط فهم النص المتصلة؛ كالمناسبات والناسخ والمنسوخ وسواهما، يتضح وجود نصوص وهمية تحدث بها الرجال أو ادعوها في شروحاتهم النقلية أثناء تفسير المقدس لتتحول نفسها لمقدس وتحدث الخلل المفهومي العام، فيختلط الإلهي بالإنساني مشكّلاً أشد صور الالتباس، ومنتجاً أبشع صور الإرهاب والدمار.. إن تصور البعد النصي وسلطة إطاره الذهني في صورته الأكثر قسوة والأشد صرامة للتطبيق الإسلامي "داعش" يحيلنا لمناظر قتل جماعية موحشة وجز للرؤوس مرعبة بسبب الردة، ورجم لامرأة حتى الموت ساهم في سيناريو وحشيته وهمجيته أقرب الناس منها" والدها"وهو يشارك الجمع برميها بحجر.. هذه التصرفات الإرهابية التي امتعض العالم أجمع منها بما تحمله من بغي وطغيان بالإنسان تجعلنا ندرك حجم المأساة المتصلة بالتأصيل والمنهجية المضللة لتفسير "النص" عن طريق تراث سلطوي لمدرستي الفقه والحديث المتطرفتين.. اليوم تعدت الحكاية رغبة إعادة تفسير تصالحية إلى حاجة نقدية تصحيحية لإنقاذ الإنسان من فجور الجماعات الإرهابية به.. ولدرء الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين؛ تلك التي تمثلها أشد الجماعات الإرهابية صراحة للتطبيق الفقهي المتطرف الوحشي "داعش".. إن إشكالية جدلية الحدود أصبحت صراعاً بين اتجاهين لايلتقيان.. اتجاه إنساني يتغيا إنقاذ الإنسان من واقع غاشم، وآخر تقليدي نقلي يخلط بين النص والإنسان/ المقدس/ والمدنس، فيقابل بينهما بمعادلة متساوية.. مالا يفهم في شأن الكهنوت؛ إصرارهم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين بحدود يدعونها ويدافعون عن رجالاتها، رغم تصدي النص ومخالفته الصريحة، لا لشيء إلا لمجرد الدفاع عن رجال يمثل تراثهم المنقول مهما توحش مكانة تفوق الوحي الثابت المحفوظ.. إننا بفهمنا للمسلّمات النصية؛ ندرك أن الحدود جاءت مفصلة بنص قرآني لايحتمل التأويل (لقد فصل لكم ما حرم عليكم)، ولا يمكن أن يأتي تفصيل أمر محرم بآيتين تناقض إحداهما الأخرى، وما عرف بالناسخ والمنسوخ ليس للحدود شأن فيه، فالقرآن في آية واضحة الثبوت والدلالة يصرح بأن (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وعندها ينشئ الفائدة الإيمانية للإنسان المتمثلة في تكملة الآية (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها..) وتتأكد خصوصية مسؤولية الإيمان بقوله تعالى (لكم دينكم ولي دين)، (كل نفس بما كسبت رهينة)، (ليس لك من الأمر شيء) على أساس راسخ من المسؤولية الفردانية، فالمرتد يعاتبه الله سبحانه (يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه..) أو يهدده بعذاب في الآخرة، ما يؤكد أحقية تبني الإيمان وعدمها. لايستطيع من يدعي قتل المرتد أن يأتي بآية قطعية الثبوت والدلالة تنص على حد القتل، فالتهديد للمرتد تهديد أخروي وشأن إلهي خالص، (من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. أما (رجم الزاني والزانية) فأصحابه يدعون أن آية نزلت في الرجم نسخت لفظاً وبقي حكمها، أوردوها بصيغ ثلاث: (إذا زنيا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة) (إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ولن أتحدث عن الأحاديث، فجل أحاديث الرجم يتضمن طعناً في حفظ القرآن، فمن قال بالرجم فهو قائل ضمناً بتحريف القرآن، لأن أغلب أحاديث الرجم تفيد ذلك.. إن سورة النور يتصدرها رد أي ادعاء للرجم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) تلاها الحكم مباشرة (الجلد) مفصل بالحالات، فكيف تنسخ تلاوة أشدها حالة ( حالة الإحصان)؟!! ثم إن الآية المزعومة المحذوفة ليس فيها دليل على الإحصان، فالشيخ والشيخة ليسا بالضرورة أن يكونا محصنين، هذا عدا النظم الركيك المخالف للقرآن أسلوباً وصياغة ومفردات،أما كلمة "البتة" المثبتة في الصور الثلاث فلم تتداول في عصرها ولم ترد في القرآن نهائياً.. كما أن حكم الأولوية؛ يجعل المحصن والمحصنة أولى بأن يثبت حدهما نصاً من الزاني الأعزب، لما تتحمله حالة المتزوج من خطيئة الزنا مع ما تنافيه من قيمة أخلاقية عظمى هي الوفاء بين الزوجين الذي قدس الله رباطهما"الزوجية" واعتبره آية من آياته، فكيف يهتم بثبوت نص تلاوة للحد الأقل"الجلد" بينما يحذف الأكثر غلظة"الرجم"، إن منطقاً لا يستقيم وعبثية هذا الادعاء.. يذكر القرآن تفاصيل المحرمات، حتى حكم الصيد (قتل حيوان) حال الإحرام فكيف ينسخ حكماً يقتضي أن يقتل الإنسان بهذه الصورة المفعمة بالقسوة بدون أي إشارة عابرة له، إن الأمر أشبه بقسوة قلوب لا حكم إله حكيم.. إن مبدأ نسخ آية وبقاء حكمها مبدأ مرفوض في القرآن بدليل (لقد فصل لكم ما حرم عليكم) والتفصيل يتطلب التنصيص القطعي الثابت لأشد المحرمات (الخطايا) وأحكامها المدرِئة (الحدود) ولئن كانت مدرسة الحديث تجيد المماحكات، فإنها لا تملك أي دليل أمام قوله تعالى بحق الإماء (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) والرجم ليس عذاباً بل نهاية حياة، ولا يقبل التنصيف.. بل الجلد.. نسخ الآيات مع بقاء حكمها لايمكن؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير). فمما لافلسفة فيه أن النص إذا نُسِخَ نسخ حكمه، فلا يتصور بقاء حكمٍ لنصٍ محذوف.. في كتاب محفوظ !! فالحكمة مفقودة بنسخ نص مع بقاء حكمه، والسؤال الملحّ؛ فلمَ يحذف نص حكمه باق؟!! ولعل سؤال العلة يذكرني بأكثر التعليل حماقة (الحكمة من نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهي الابتلاء والاختبار لقوة إيمان هذه الأمة ومسارعتها إلى طاعة ربها، ذكر ذلك السيوطي في الإتقان، والزركشي في البرهان حيث نقلا (أن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طريق الوحي). إن حمل أي تعليل على الهرطقة سيكون أولاه هذا التعليل السقيم.. لقد فهم جون لوك توجه كهنوتية رجال الدين فقال:"رجال اللاهوت يقولون عن الإنسان إنه يجدف بحق الله كلما خالفهم في أمر" وهي ذات الحجة التي يمررونها ليعبثوا بالعقل فيكفروا ويزندقوا أي ناقد أو باحث لا يأخذ كلامهم كمقدس لا ينقد.. لكن مالا يفهم في شأن الكهنوت؛ إصرارهم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين بحدود يدعونها ويدافعون عن رجالاتها، رغم تصدي النص ومخالفته الصريحة، لا لشيء إلا لمجرد الدفاع عن رجال يمثل تراثهم المنقول مهما توحش مكانة تفوق الوحي الثابت المحفوظ.. وكما يجري الخلط بين العقيدة والشريعة الذي تناولته في مقال (سلطة النص وثبوت النص) يجري الخلط بين الحدود والإيمان، فعندما تطالب بقراءة واعية ناقدة تتعرض لسيل من التهم المكفرة المجانية.. والحقيقة أنه ما لم يفك الارتباط بين النص والرجال، والنص والتاريخ فستظل مدرسة الفقه في القرن الرابع الهجري هي المتحكمة فينا.. وسنعجز عن تصحيح النظرة تجاه إسلام مسالم يسعى لخير الإنسانية جمعاء.. وستظل صورة داعش الوحشية هي المهيمنة على مشهد المسلمين.. إن أبجدية المعرفة النصية تتطلب الوعي بتكييف النص وربطه بشروط الواقع، فلا نص يصح تطبيقه وهو مفصول عن إنسان الحاضر وواقعه، واستلهام ما عليه الحال يبعث بأهم رسائل الإنسانية لإنقاذ الإسلام من بجاحة البشاعة اللا إنسانية الذي تقدمه جماعات الإرهاب الإجرامية.. وكما التشريعات تبقى أكثر حداثة بمفهوم علي بن أبي طالب (القرآن حمال أوجه)، فإن هناك نقطة يقف عندها الغالبية ولا يستطيعون كتابتها؛ وهي ضرورة إعادة تفسير القرآن بأسلوب يناسب العصر، وبقراءة أوسع إنسانية وأكثر عالمية وانفتاحاً.. ومما لا شك فيه أننا لا نستطيع توسيع دائرة الوعي وتعميق قيمة النقد لتحقيق قراءة مستنيرة حديثة للقرآن طالما نربط المقدس بأشخاص ونلبسهم لباس القدسية، بل بما يحمله المقدس من انثيال قيمي يسعى لسعادة إنسان الحياة الدنيا ويحقق عمارة الأرض..