كان مضمون الجزء الأول من هذا المقال منصباً على إثارة سؤال محوري هو: كيف تستطيع المجتمعات الحديثة المتطورة الجمع بين أمرين في غاية الأهمية، وهما: حرية التفكير والتعبير عنه، والحفاظ على سيادة الدولة، بصفتها نشأت أساساً لجعل الناس أحراراً متمتعين بحريتهم دون خوف أو وجل. وبمعنى أوضح: ما هو المدى من حرية التعبير الذي يمكن أن تسمح به (دولة ما) لمواطنيها، دون أن تخشى أن يؤدي ذلك إلى المساس بسيادتها وأمنها، وأمن المجتمع ككل، ومن ثم العودة إلى حالة الطبيعة، حيث الكل في حالة حرب مع الكل، وحيث الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، كما يرى الفيلسوف الإنجليزي المشهور: توماس هوبز؟ بادئ ذي بدئ، يجب علينا تذكر الغاية القصوى من تأسيس الدولة، بأنها، كما يقول أحد أهم فلاسفة عصر النهضة الذين مهدوا للفلسفة السياسية الحديثة: الفيلسوف (اسبينوزا)، في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة)، ليس إرهاب الناس، وجَعْلهم يقعون تحت نيْر الخوف، بل إن الغاية من تأسيسها عكس ذلك تماماً، وهو العملُ على تحرير الناس من الخوف، بحيث يأمن كل فرد يعيش تحت مظلتها على نفسه أثناء ممارسته لحقه الطبيعي في التفكير والتعبير عما يفكر فيه، وإبداء رأيه في كل ما يتصل به، أو يؤثر عليه، أو يمد لحياته بصلة، ولكن مع قيود ضرورية تتجلى في ما يلي: الاحتفاظ للمواطنين أمثاله بنفس الحق المعطى له في حرية التفكير والتعبير، والاقتناع بأن حريته في التفكير والتعبير تقف عند تخوم التعدي على حرية أمثاله. ألا يترتب على تعاطيه لحرية التعبير أي سلوك سلبي، كأن يمتنع عن الامتثال للقوانين التي ينقدها انطلاقاً من حريته في التعبير ذاتها. إن على المواطن الصالح في الدولة المدنية الحديثة أن يطيع القوانين، ويؤدي ما عليه من حقوق تجاهها، بغض النظر عن موافقته عليها من عدمه، بنفس الوقت الذي له الحق في نقدها سلمياً دون إلحاق أي ضرر بالدولة و/أو بالمجتمع. وبهذا النسق الذي يتضمن كلاً من حرية التعبير، والحفاظ على كيان الدولة، سيشعر المواطن بأنه يستخدم عقله استخداماً حراً، بنفس الوقت الذي سيشعر فيه أنه لن يكون مضطراً إلى استخدام أسلحة أخرى، يلجأ إليها عادة من يُضَيَّقُ على حريته في التعبير، كالكره والحقد والخداع والتلون والنفاق، والتعامل مع الآخرين ومع الدولة بأكثر من قناع، وذلك لكي يخفي وجهه الحقيقي غير الراضي عن الأوضاع. وباختصار، فإن الحرية: حرية الفرد والجموع، هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. السؤال المهم الآن هو: متى يجب على الدولة أن تتدخل لحماية سيادتها وأمن المجتمع من أي انحراف في استخدام المواطنين لحقهم الطبيعي في التفكير والتعبير؟ للإجابة على السؤال نقول: لمّا كان الناس غير متساوين في أفكارهم، ولا يعبرون عنها بطريقة واحدة، بل ولا حتى بطريقة متقاربة، كما أنهم غير متساوين في تقديرهم للأمور, وغير متساوين في الإرادات والقدرات والرغبات، وكل فرد يرى أن رأيه الأكمل والأحسن والأفضل، فلقد اقتنعوا حينها بأنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بسلام إن أتيح لكل فرد منهم أن (يسلك) وفقاً لما تمليه عليه إرادته ورغباته وقدراته. ومن ثم، فقد اضطروا، في لحظة زمنية ماضية، إلى التخلي عن حياة الطبيعة التي كان فيها الكل في حرب مع الكل، ودخلوا بدلاً من ذلك، في عقد اجتماعي تخلى كل منهم عن حقه المطلق في السلوك، لكنهم لم يتخلوا أبداً عن حقهم المطلق في التفكير والتعبير. ولما كان قيام الدولة ثمرة للعقد الاجتماعي، بمعنى أنه أساسها، ولما كان الناس قد تعاقدوا على ألا يسلك كل منهم كما يشاء ويرغب، حفاظاً على حريتهم، بل حفاظاً على حياتهم كلها، فإن الغرض من قيام الدولة يمتد، بالإضافة إلى حفظ حرية الناس، إلى محاسبة الناس الذين (يتعدون في سلوكهم)، وليست محاسبتهم على تفكيرهم والتعبير عنه بسلمية، بمعنى أن المحاسبة يجب أن تكون على السلوك، وليس على التفكير. ومن هنا يمكن لنا فلسفياً أن نبرهن على ما قلناه في الجزء الأول من هذا المقال من أن المواطن الحر في الدولة الحرة يستطيع أن ينتقد القوانين والأنظمة التي تصدرها الدولة، بصفته حقاً طبيعياً له محسوباً على حرية التفكير والتعبير، لكنه من جهة أخرى ليس حراً في ألا يطيع تلك القوانين والأنظمة، بصفته، أي عصيان القوانين، مظهراً من مظاهر حالة الطبيعة (ما قبل قيام المجتمع والدولة). وبالتالي فمن واجبات الدولة في هذه الحالة أن تتدخل لكي تجبر المواطن على إطاعة القوانين المقررة، بنفس الوقت الذي تضمن له حق نقدها بسلمية، وبدون أي تحريض على عدم إطاعتها. إذاً الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد عندما قبل بالدخول في عقد اجتماعي ينشئ الدولة، إنما ينحصر في حقه في أن يسلك كما وكيف يشاء، لكنه لم يتخل أبداً عن حقه في أن يفكر، وأن يحكم، وأن يعبر عن تفكيره وحكمه. وعلى ذلك، فكل من (يسلك) ضد مشيئة السلطة العليا، كما يقول (اسبينوزا) في كتابه آنف الذكر، سيلحق بها الضرر، ولكن الفرد مع ذلك يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه، ومن ثم يستطيع الكلام أيضاً بحرية تامة، بشرط ألا يتعدى حدود الدعوة والكلام، وأن يعتمد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نيته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. ويضرب (اسبينوزا) مثلاً بشخص تصدى لقانون أصدرته الدولة، فبيّن تعارضه مع العقل، أو مع قوانين أخرى، أو بين عدم فاعليته، ومن ثم أعرب عن ضرورة إلغائه، وعرض رأيه هذا على السلطة المعنية، وكف في أثناء نقده للنظام عن أي مظهر من مظاهر المعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديراً بلقب المواطن الصالح. أما إذا كان الهدف من تصديه للقانون هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مثاراً للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغماً عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مشاغباً عاصياً، وليس مواطناً صالحاً. ولما كانت إثارة الفتن ستعصف بالدولة والمجتمع معاً، فإن إثارتها لا يكون بمجرد إبداء المواطن لرأيه أو لحكمه على أمر من الأمور، إنما تثور الفتن عندما يترتب على تلك الآراء والأحكام سلوك سلبي، كأن يمتنع عن الامتثال للقوانين، أو يحرض على ذلك، ولو بطريقة ضمنية. إن مثل هذا السلوك السلبي يعني صراحة تخلي صاحبه عن الالتزام الذي أخذه على نفسه حين أصبح عضوا في المؤسسة الاجتماعية، ذلك الالتزام الذي تعهد بواسطته بأن يتخلى عن حريته المطلقة في السلوك، اتقاء للتعرض للفناء التام. أما مجرد الآراء والأحكام فلا يمكن، وفقاً للفلسفة السياسية الحديثة، أن يوصف صاحبها بأنه داعية فتنة، إلا إذا كان يعيش في دولة توتاليتارية لا تُرِي مواطنيها إلا ما ترى، ولا تهديهم إلا سبيل الرشاد! ومع ذلك، فإن الفلسفة السياسية الحديثة تعترف بأن حرية التعبير على هذا النحو الذي تحدثنا عنه، يمكن أن يترتب عليها بعض السلبيات، ولكن، كما يقول اسبينوزا: هل يوجد تنظيم وضعي يبلغ من الكمال حداً يجعل من المستحيل حدوث بعض السلبيات؟ كلا، وإن من يريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقوانين يزيد من حدة العيوب دون أن يقومها. وهكذا تتضح الشروط التي بمراعاتها يستطيع المواطنون في الدولة المدنية الحرة أن يمارسوا حريتهم في التعبير والنقد دون أن ينالوا من سيادة الدولة أو من سلطتها، ودون أن يسببوا أي إثارة سلبية قد تؤثر على السلم الاجتماعي. وفقاً لهذه الشروط، يَترك المواطنون للدولة حرية اتخاذ القرارات وسن القوانين، ويلتزمون هم بإطاعتها، حتى ولو اضطروا في سبيل إطاعتها إلى التصرف على نحو مخالف لآرائهم وأحكامهم، والتي لهم مع ذلك حق التعبير عنها.