يسعى أرباب العلم والأدب والثقافة إلى توطيد العلوم، المتخصصون هم فيها بأساليب وشروح لقواعد وأصول كل علم سواء كان شرعياً أو لغوياً أو أدبياً، ومن هؤلاء الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي جمع فقه الحديث النبوي الشريف في كتابه الموسوعي (الأم) وسايره كثير من الفقهاء والعلماء والأدباء واللغويين في هذا المسار التأليفي على أننا نركز بالذكر على الألفيات كألفية ابن معطي وألفية ابن مالك في النحو واللغة والصرف ومقصد هؤلاء المؤلفين أن يؤسسوا لعلومهم المبادئ والقواعد والأصول حفظاً بالنظم الذي يتجاوز الألف بيت من ذلك. وقد ظهر في العصر الحديث للثقافة والأدب المعاصرين موسوعة الألف كتاب الذي طبع في مصر عبر القرن العشرين الماضي، لكن هذه الموسوعة ألفية لا في مضمونها وإنما في سلسلة كتبها الذي يستقل كل كتاب واحد عما قبله من نفس السلسلة إلى آخره.. وإذا بحثنا في الأسس الأدبية والشعرية فإننا نجد أن لهما كتباً في أصولهما الأدبيين الثقافيين التي ذكرها عبدالرحمن ابن خلدون في مقدمته المشهورة ذاكراً رواية عن بعض مشايخه أن لمن أحب أن يدرك الأدب فهماً وعلماً فليدرس أربعة من دواوين الأدب وهي (البيان والتبيين) للجاحظ و(أدب الكاتب) لابن قتيبة و(الكامل في اللغة والأدب) للمبرد و(الأمالي) لأبي علي القالي فإن هذه الكتب حاملة في مضامينها أشعار وآداب العرب الأقدمين سواء في العصور الجاهلية أو ما جاء بعدها من آداب إسلامية وعربية قلباً وقالبا، وطرح في هذه الدواوين كثير من خطب وأيام وأشعار العرب وتراجم الشعراء والأدباء والخطباء والبلغاء كالمعلقات والمدائح النبوية والخطب ذات الحكم والسير بصفة عامة كالتعريف بزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وامرئ القيس وعنترة ابن شداد، ثم من عاصر الجاهلية وصدر الإسلام كحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة والحطيئة ثم جاء بعدهم الفرزدق وجرير والأخطل، ثم جاء المتنبي وابن الرومي والبحتري وابو تمام، ومن خطباء العرب قس بن زائدة الذي حضر خطبته نبي الله عليه السلام وهو دون البعثة ثم أكثم صيفي والحجاج ابن يوسف الثقفي، ثم معن ابن زائدة، وثم شعراء وأدباء وخطباء من الخوارج مثل عمران ابن حطان. وهذه الأعمال الشعرية والأدبية والبلاغية تضم أمهات من الكتب والدواوين ككتاب الزمخشري (أساس البلاغة) و(مقاييس اللغة) لابن فارس وكتاب ابن عبد ربه (العقد الفريد) مثل هذه الأمهات الكتبية تضم المعاني والألفاظ والمصطلحات العربية في لسان العرب وبيانهم وأدبهم وبلاغتهم وفصاحتهم، أراد واضعوها تعليم العامة من الشبيبة والبنين وطالبي العلوم العربية والأدبية والشرعية أصول الآداب وفصول البلاغات ومعاني البيان وقصائد الشعر العربي الفصيح. كما أرادوا مما وضعوا من الشروح والمصنفات لتلك الأمهات والأصول العربية والأدبية تخريج الأصول العامة للأدب واللغة والشعر، ويعتبر (أساس البلاغة) للإمام الزمخشري أم كتب الفصاحة في لغة العرب، فهو يضع اللفظة الاصطلاحية لا بمعناها العادي كما في كتب اللغة السائرة وإنما يقف عند كل لفظة ومصطلح للمعنى البعيد والمثمر والغني بالحرف والكلمة والجملة، فيطيل ساعة ويجمل أخرى متنقلاً بثمار البلاغة العربية وفحواها البياني الفصيح من بساتين الأدب واللغة العربيين. ويعجبك في تآليف هؤلاء الأئمة رجوعهم دوماً إلى آيات ونصوص القرآن الكريم وحديث نبي الله عليه الصلاة والسلام وآداب ولغات العرب منذ أقدم العصور وإلى عهدهم كما عاشوا. وهناك في هذا المجال مئات بل الآلاف من الشواهد والنصوص والمعاني والمصطلحات التي انساق معها هؤلاء البلغاء والمؤلفون وشراح مؤلفاتهم وطراح مصنفاتهم، لكل ذلك سبب ومسبب من المنطق وكلمة وشاهدها من البلاغة وسؤال وإجابة عليه من المعاني. لذلك سقنا في هذه الكلمة أسماء وأعلاماً من العلماء واللغويين والأدباء والشعراء الذين ساقوا في كتبهم أصول وقواعد آداب ولغات العرب. ومن المعاصرين الذين عنوا بهذا الطرح المعنوي البليغ مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب) في ثلاثة أجزاء، حيث تتبع هذا المؤلف بلاغة القرآن وفصاحة الحديث النبوي ولغات وأشعار وعلوم وخطب العرب الأقدمين، وكان الرافعي في هذا الكتاب مدققاً وشارحاً أبواب التاريخ الأدبي واللغوي عند العرب.ولم يكتف بذلك بل استخرج في كتابه المعاني العويصة والتي لا يدركها إلا من عرف أسرار العربية ودقة معانيها وأصولها وقواعدها وأشعارها. أما الجزء الثاني من كتاب الرافعي فقد خصصه للإعجاز القرآني والبلاغة العربية وبالنسبة للجزئين الأول والثالث فقد سار فيهما ما سبق أن أشرنا إليه من الدقة في البلاغة والبيان إضافة إلى التخاريج الفكرية من الأدب والمعاني الدقيقة من المنطق والبيان، وفي ذلك كتب فصولاً وأبواباً جمةً وغفيرة في الجزء الأول من كتابه معرفاً بالعرب وأنسابهم وأصولهم البعيدة وبيئاتهم وأراضيهم وحضاراتهم القديمة، كما فصل في الجزء الثالث لغاتهم وأشعارهم وآدابهم طارحاً أثناء ذلك النصوص التي يستشهد بها والشواهد التي يكتبها ويستخرجها من أمهات التراث الأدبي والفكري واللغوي والثقافي للعرب، ويعد كتاب الرافعي أماً من أمهات كتب العصر الحديث في الأدب والبيان لأنه لا يؤرخ لآداب العرب وإنما يشرح ويستثمر معاني آدابهم وثقافاتهم اللغوية والشعرية الفصيحة فهو يطرح جملة ويعنى بها على مدار الفصل والباب من الكتاب، كما يستخرج المعنى بمعاني كثيرة على حسن المنطق وجميل العبارة في اللغة وعظيم الجملة مما يستشهد من أدبهم وشعرهم، وعلى ذلك يندرج كتابه في الأمهات بعكس كتاب معاصره جرجي زيدان في لغة وآداب العربية الذي يؤرخ للأدب العربي منذ الجاهلية ومروراً بالعصور الأربعة من بعد الجاهلية إلى العصر الأدبي الحديث فجرجي يعتني بالتاريخ والأعلام أما الرافعي فعنايته بالمعاني وفصاحتها والجمل وبلاغاتها والمنطق وعجائبه، ولا يعني ذلك أن الرافعي قد أهمل الجانب التاريخي بقدر أنه شامل إياه عبر فصوله وأبوابه لكتابه المذكور. فيفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والشعر العربي، من حيث سلسلتها عبر التاريخ ولكنه لا يفرق من حيث الموضوعية والتراثية والإبداعية فيما شرحه وطرحه من آداب ولغات وبلاغات العرب، معطياً الموضوع لكل باب نصاً تاريخياً لغوياً أو أدبياً وبيانياً ويرجعه إلى قائله أو صاحبه مهما بعد في التاريخ والتراث والأمد. ولمراجع الرافعي غنى من مكتبته التراثية التي ورثها عن والده الشيخ عبدالرحمن الرافعي القاضي بطنطا المشهور، ولمسات الولد تقفوا إلى الوالد من حيث العلم والإيمان والدين والأدب والعمل والإبداع، ولقد ورد في كتاب حياة الرافعي لمؤلفه العريان أن أبا الرافعي يسافر من طنطا إلى القاهرة بالقطر يومياً في فترة زمنه في القضاء بالقاهرة وكان لا يترك صلاة الشروق الصباحية وحدث أن تأخر هذا الوالد وأصر على الرغم من تأخره عن موعد القطار أن يصلي صلاته اليومية، ثم نظر إلى ساعته فإذا موعد القطار قد تجاوز ولكنه لم ييأس فذهب إلى المحطة ووجد القطار قد تأخر لربع ساعة من تحركه إلى القاهرة غير العادة، ويرى العريان أن ذلك من بركات التدين والتقى لله عز وجل في أفراد هذه العائلة الزكية. ولله في خلقه شؤون.