بين آن وآخر أقيمُ حفلة تخلص من كتب انتهت صلاحيتها بالنسبة لي .. أو أوراق تحتل سطح وأدراج المكتب .. هذه المرة وقبل أن أنتهي من حفلة التخلص .. وذلك الجموح الفردي الذي يسعدني.. توقفت أمام ورقة من دفتر مدرسي لاتبدو قديمة جداً ولا جديدة .. وهي ليست لي .. .فتحتها ولا أعرف لماذا حاصرني حزن رهيب قبل فتحها! من لحظة الفراغ إلى لحظة فتحها وهي أجزاء من الثانية ووقوع عيني على الأسطر .. دارت بي اللحظة عن الدنيا .. شعرت أنني مغيّبة .. أغلقتُ يدي اليمنى على الورقة .. وأغمضت عينيّ تماماً .. تلمستُ الورقة بهدوء وبرقة ربما لأن من كتبتها كانت في .. رقة النسيم .. وهفهفة أرواح الأطفال .. لاتغيب عنها ابتسامتها مهما تأزمت المواقف! أشعر وأنا أبكي بأنني في حاجة ماسة للبكاء لأيام .. حتى أغتسل تماماً من أحزاني .. هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الورقة .. بعدأن تخيلت أنني خبأتها في مكان لايخولني برؤيتها كل يوم .. احتفظت بها منذ 3سنوات .. وهذه هي المرة الأولى التي عليّ أن أتأمل بها وأقرأها بهدوء لأختبر نفسي على المواجهة والتصدي للألم .. أقرأها بهدوء وتروّ .. لكن كيف؟ وأنا من هربتُ منها .. ومن ذكريات غيابها .. وأنا من دبت الفوضى في داخلي عندما .. حضرت للمرة الأخيرة لحظات شراء تذاكر المغادرة الإجبارية من الدنيا! يغيبون عنا وكأنهم ظلال متسربة .. ليس بالإمكان أن نقبض عليها .. أو نُمسك بها! منذ 3سنوات كانت نهاية الحكاية .. كنت في جازان لايام قليلة .. لاتكفي لصياغة لحظات رؤية لمن نحبهم .. ومن ارتبطنا بهم .. في أيام الطفولة والمراهقة ! كنا جيرانا، أولا ًمنزلان بجدار مشترك .. وتداخل يومي لأجيال سبقتنا بعقود طويلة .. رجالا ًونساء منهم من غادر الى رحمة الله .. ومنهم من بقي ولكن .. تباعدت بيننا الأماكن .. ولكن ظلت القلوب متصلة .. والأرواح .. تلتقي حتى في الغياب! كنا نذهب إلى المدرسة معاً ونخرج معاً .. ونختبئء في سنوات الدراسة الأولى .. ايام رمضان الحارة .. خلف الجدار لنفطر بعيداً عن أهالينا ونتفق مع إخواننا الأولاد ومعهم أن لانفتّن على بعض .. ايام بريئة مغلفة بالود والصدق .. هما أختان .. نورة وشريفة .. نورة الأصغر وشريفة الأكبر .. ..أحتفظ لهما بصورة معي كنت في الرابعة من عمري كما تقول أمي .. وهما نورة في السابعة وشريفة في التاسعة .. دائماً تقول شريفة .. فاكرة صورة عم حسين قيسي .. المصور الشهير في جازان الله يرحمه .. ..! افترقنا وتباعدنا ولكن ظلت العلاقات كما هي .. لم تختلف ولم تتمزق .. على مستوى العائلة كاملة .. الرجال والنساء .. بدت لي أحياناً هذه العلاقات وكأنها جسور قوية .. يركض عليها البعد والزمن ولاتظهر أقدامهما عليها .. بدت كأنها مسارات لايمكن أن يغطيها الغبار أو تحجبها عواصف تقلبات الحياة .. أو تذيبها المسافات البعيدة! نتواصل أحياناً ونغيب .. شهورا .. تسرقنا الايام .. وتستفرط بنا .. ونعود ونلتقي .. هاتفياً .. أو بالوجوه .. نحكي تفاصيل أيامنا الحلوة .. ونتقبل عتاب بعض .. وتضحكان عندما أصمت أو اغضب .. لكثرة العتاب لمعرفة كل منهما أن نجوى .. لاتحب العتاب .. أتحمل وأقول يفترض أننا نعرف بعضا من سنين وبالتالي كل منا يعرف عيوب الآخر .. فلماذاهذا الاستفزاز؟ تضحك شريفة .. وتقول مايعتب عليك إلا اللي يحبك .. نضحك في سعادة مفرطة نسرقها بخفة من زمن جائر أخذ من كل منا ما أخذ! في البدء ومنذ 6سنوات كنت مع أمي في الطريق الى المستشفى في جدة لزيارة " نورة" بعد أن مرضت وترددت على جدة للعلاج .. وكنت قد وعدتها قبل ليلتين أن أزورها الخميس .. قبل أن أصل بقليل اتصلت ابنة أخيها وأخبرتني أنّ عمتها توفيت الآن .. بعد مرض لشهور قصيرة .. ركن السائق السيارة جانباً وظللت لأكثر من ربع ساعة لا أستطيع أن أقول شيئاً .. بما يسمى فقد التواصل مع اللحظة الباهتة .. رحلت نورة ولم أتمكن من رؤيتها لأنني لم أستطع ذلك .. كان صعباً جداً .. اكتفيت بآخر مرة جلست بجانبها على سرير المستشفى البارد وتحدثنا وابتسمت بصبر وهدوء وإيمان شديد بقضاء الله وقدره .. ظل هاتفها في جوالي حتى العام الماضي لم أستطع أن أمسحه .. ربما لأننا أحياناً لا نصدق فراق من نحبهم .. ونتخيل أنهم قد يعودون .. أو نسمع أصواتهم من جديد! فقدت نورة .. وأتذكر أن شريفة قالت لي: لقد فقدت توأم روحي .. وتبادلنا المواساة .. حتى عندما كنا نلتقي كانت نورة حاضرة معنا لاتغيب .. من الحديث والذكريات .. هذه المرة كنتُ على موعد .. مع شريفة (يتبع المقال القادم)