يمكن لأي شخص أن يسرد عشرات القصص عن يمين "والله ما تحاسب"، فكثيراً ما نواجه عدداً من المواقف أمام المحاسب "الكاشير"، سواء في المراكز التجارية أو حتى في محال المواد الغذائية والبوفيهات، وتشاهدها بكثرة في المطاعم، تبدأ بابتسامات عريضة، وقد تنتهي بالزعل، وأبطالها من فئات عمرية مختلفة، كل منهم يريد أن يدفع الحساب، مستخدمين أغلظ الأيمان، فليس غريباً أن تشاهد شخصاً يرمي على زميله بطلاق زوجته إن لم يسمح له بأن يحاسب؛ مما قد يعرضه وزميله للإحراج أمام الحضور، فكيف يمكن لشخص أن يتعرض ليمين الطلاق مقابل مبلغ يسير من المال؟ ولماذا يسعى البعض لإبداء الشهامة أمام الآخرين معرضين زملاءهم للإحراج؟. ثقافة مجتمع وبيّن "علي خلف إبراهيم" أنّه وضع مع أصدقائه خطة لتفادي هذه العادة، واتفقوا على بنودها، بحيث لا يدفع أحد منهم بشكل فردي، وإنما يتم توزيع مبلغ الفاتورة بالتساوي على الجميع، وبذلك ارتاحوا من هذه العادة، وخفّفوا على بعضهم تبعاتها، معتبراً عادة النقاش الحاد بين الزملاء والأصدقاء حول دفع الحساب أمرا طبيعيا في المجتمع القبلي، الذي ترسخت فيه عادة الكرم، وأصبح من العيب أن لا يدفع الحساب عن الآخرين، حتى لو كلفه ذلك قوت يومه، فهي جزء من ثقافة مجتمع من الصعب جداً طمس معالمها، أو حتى الحد منها بفعل مظاهر المدنية الحديثة، والتي أثرت في تركيبة المجتمع، لكن لا تزال مثل هذه العادات صامدة، وتراها بشكل مستمر في المراكز التجارية، وتزداد في المطاعم. رجولة وكرم ولفت "علي يحيى الزهراني" إلى أنّ هذه العادة ليست من ضمن العادات السيئة، ولا تصنّف كذلك، بل على العكس تماماً، فهي من العادات الاجتماعية الحميدة التي تمثّل ثقافة الكرم الذي اشتهر به الرجل العربي بصفة عامة، والمسلم بصفة خاصة، وهي أيضاً إحدى الظواهر التي حثّ عليها الدين الحنيف، مستدركاً: "لكن بلا شك الشيء إذا تجاوز حدود المعقول يصبح إسرافاً وتبذيراً للمال، وقد يكون الشخص في حاجة ماسة لهذا المال؛ مما يوقعه في حرج في بعض الأحيان، فقد يستطيع أن لا يوفي بعض المستلزمات الأساسية الخاصة به أو بأسرته من أجل هذا الأمر، فيجب أن يكون الشخص وسطاً بين ذلك". أصول المرجلة واعتبر "وليد الهاجري" الكرم والجود من صفات المرجلة، ويتفرع منها كل أصناف الكرم الأخرى، ومجرد أن تحاسب عن شخص قريب أو صديق جمعتك الصدفة معه في مطعم أو مركز تجاري هذا أقل من الواجب، حيث إنّ الحساب عن شخص بهذه الطريقة قد لا يوفي واجبه، فالواجب أن تزيد ذلك بدعوة صادقة. وقال:"لقد استخدمت الحلف والطلاق كثيراً، خاصة إذا كان الشخص عزيزاً وغالياً، وقد لا تجمعك الفرصة به مرة أخرى"، لافتاً إلى أنّ من المرجلة أن توفي بذلك حتى لو اضطررت للاستدانة من قريب أو صديق لتوفي الضيف واجبه. عزة النفس وأوضح "محمد الحسني" أنّه من الصعب جداً أن تكون في مطعم وتقابل صديق ولا تحاول أن تدفع الحساب، والأفضل أن تحاسب دون أن يعلم، حتى ولو في كنت ضائقة مالية، لافتاً إلى أنّه يفضّل أداء هذا الواجب عن الإيفاء بأي التزام آخر، مشيراً إلى أنّه في بعض الأحيان يترتب على هذا التصرف التقصير في جانب آخر أسري، أو حتى دفع إيجار البيت، معتبراً أنّ الضيف مقدم على النفس، مستدركاً: "لا شك أنّ هذا قد يكون تصرف غير سليم، لكن هذا ما تربينا عليه، ومن الصعب جداً تغييره، وإذا حاولت قد توصف بالبخل وهو أسوأ ما يُنعت به الرجل". عادات وتقاليد ونوّه "منسي آل إبراهيم" بأنّ الأمر جزء من عادات وتقاليد المجتمع، ومن الصعب جداً أن تتغيّر هذه العادة وإن بدأت تتلاشى، مضيفاً: "ساهمت رحلات طلب الرزق من بلد إلى آخر أو مدينة إلى أخرى في تخفيف هذه الظاهرة، لكنها لا تزال موجودة كلما اتجه الشخص نحو مسقط الرأس أو المجتمع المتقارب، رغم أنّ الشباب في هذه الأيام بدءوا في التفكير كثيراً بتجاوز هذه الإشكالية، خصوصاً في الرحلات الشبابية، وذلك بتخصيص مبلغ خاص بمصروفات الرحلة يقسم على الجميع بالتسوية، ويتم تعيين مسؤول عنها، ويصرف بقدر ما تحتاجه الرحلة"، لافتاً إلى أنّ هذه الطريقة أصبحت تطبق في بعض الأسر، حيث يستخدمون نظام "القطة" ليضمن أنّ الجميع يدفعون بشكل متساوٍ. كل يمد نقوده و»الكاشير» في حيرة ممن يأخذ بعثرة أموال وذكر "فهد يحيى" -مبتعث- أنّه يتعجب من تصرفات بعض الشباب في الغربة، حيث أنّ هناك من يدفع تكاليف وجبته، عكس الشباب السعودي، إذ أصبح البعض يستخدم أغلظ الأيمان أمام المحاسب ليدفع الحساب عنه وعن زملائه، على مرأى من الجميع، ووسط دهشة عدد من الأجانب، الذين لم يعتادوا مثل هذه الأساليب، وبعضهم يتساءل: لماذا هذا الأسلوب؟ وكيف يرفع صوته هكذا عندما يدفع الحساب؟، مبيّناً أنّ بعض الأصدقاء الغربيين أصبحوا يقسمون بدفع الحساب بدلاً من الآخرين، ظناً منهم أنّها عادة لكل العرب، وهي واجبة عليهم!. ورأى "أحمد المفضلي" أنّ هذه العادة يلجأ إليها البعض للتقرب من صاحب منصب أو جاه أو وظيفة مرموقة، فترى بعضهم ما إن يرى أحد هؤلاء إلاّ ويبدأ في الحلف بدفع الحساب عنه، وكل ذلك طمعاً بالتقرب منه للوصول لمصلحة ما، لافتاً إلى أنّ مثل هؤلاء ينتقص من مقامه بتغليف هذا العمل بالرياء أو النفاق، ومثل هذه العادة ممقوتة اجتماعياً ودينياً. وقال "أحمد جزاء العوفي" -مستشار اجتماعي- إن هذه العادة منتشرة كثيراً في المجتمع العربي بشكل عام، وتزداد بنسبة كبيرة جداً في المملكة، بحكم التركيبة المجتمعية التي توارثت الكرم أباً عن جد، مبيناً أنها ليست سلوكاً سلبياً إذا أردنا أن تصنيفها من حيث المبادئ السلوكية، لكن من مبدأ ديني يجب على المسلم تجنب الإكثار من الحلف، حتى ولو كان صادقاً، لافتاً إلى أنّ البعض قد تساهل كثيراً في هذا الأمر، حتى أصبح الأيمان عندهم تجرى على ألسنتهم على كل كبيرة وصغيرة، والله -سبحانه وتعالى- يقول "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم". وأضاف قد وصل التساهل إلى الحلف حتى عند دفع الحساب، فقد تتعالى الأصوات بالايمان والحلف بالطلاق على مبلغ زهيد، وللأسف هذا من الأمور الشائعة في مجتمعنا ويجدها البعض فرصة لإثبات السخاء، والظهور بمظهر الكرم، وإن كانت هذه من الصفات الحميدة التي حث عليها ديننا، وعاداتنا، وتقاليدنا إلاّ أنّ إظهارها بهذه الطريقة المشينة غير محبب؛ لذلك نجد الكثير في المجتمع ينتقد هذه الأسلوب ويتهم فاعليه بحب الظهور، مشيراً إلى أنّ من الطرق السليمة في تجنب حدوث هذا اللغط واللغو: المحاسبة بدون علم الطرف الآخر، أو الاتفاق على الدفع قبل الذهاب للمحاسب أو اقتسام المبلغ.