ما يجري في العراق في هذه الأيام هو محاولة تصالح بين أطراف مفترض أنها متصالحة، ولكن هذه الأطراف لا تبدو مقتنعة أن تصالحها يقويها. وها هي غير قادرة اليوم على ممارسة الحد الأدنى من الحكم، أو الإدارة، تاركة العراق والعراقيين أمام محن تدفع بالعراقيين إلى تهجير جديد من زرع الفوضى في بلاد ما بين النهرين يحصد غياب الدولة وانهيارها، ومن أقصى العراقيين عن المشاركة في إدارة شؤونهم يجد نفسه وحيداً معزولاً عن نبض العراق. فكل أنواع الوجع تهون في عراق هذا الزمن بالقياس إلى وجع الهوية، فكل عراقي ذي حد أدنى من الثقافة يردد اليوم قصيدة "طرطرا" الشهيرة للشاعر محمد مهدي الجواهري يخاطب فيها بلاده الممزقة طوائف وعرقيات قائلا: "أي طرطرا تطرطري تنصري تسنني تشيعي تكردي تعربي..." زوال الحدود بين الدول العربية كان حلماً الى ان رأينا كيف ترفع بين العراق وسورية. صارت كابوساً. لم يسلم العراق يوماً بالثانوية في رتبته بالقياس إلى أي قطر عربي آخر، فالعصر العباسي بزعامته كان أزهى العصور الإسلامية، ومن قبل الإسلام كان عصر بابل وآشور هو الأزهى في العصور القديمة. وفي الحرب العالمية الثانية كان رئيس حكومة العراق رشيد عالي الكيلاني بالنسبة الى سائر الحكام العرب ما كان يأتي ذكر مصر والسعودية إلا ويأتي معهما ذكر العراق. وإذا كان الشيعة العرب يذهبون الى النجف لزيارة العتبات وديار الحسن والحسين فإن السنة العرب كانوا يذهبون أيضاً الى العراق كمرجعية وسند لنهضة القومية العربية وفي الحالتين كان تكامل وتساند تقوى بهما وتعتز أمة العرب بمذاهبها وطوائفها وأديانها وطموحاتها في الوحدة والتقدم. أما اليوم فيسلخ قلب العراق عن شماله وجنوبه. ويصبح الكرد أكثر ميلاً للانفصال والمبررات إلى ذلك أكثر من أن تحصى. هذا التشرذم يأتي بعد سنوات على بدء المصالحة السياسية، التي لم تكن مصالحة ولا سياسية. ولا بد هنا من التسجيل أنّه كان هناك دائماً من ينظر إلى العراق دون غيره على أنّه بروسيا العرب، فكما نظر الألمان إلى بروسيا على أنّها قاطرتهم في رحلة ألمانيا إلى المجد كذلك نظر العرب في عصر القومية الى العراق. وقبل الناصرية بزعامة مصر، كانت قد ظهرت القومية العربية بزعامة العراق وربما أيضاً في سورية أيام النضال ضد المستعمر. من المؤسف أن تكون الأيدي الدولية والعصبيات الطائفية هما القوتان الوحيدتان اللتان تبرزان منذ مدة غير قصيرة على الساحة العراقية وعملياً يتأكد أكثر فأكثر أن التنسيق بينهما لا يتم بالشكل والروحية المطلوبين. وحتى الآن يبدو أن الطائفية والمذهبية قادرتان على تعطيل كل مسعى هادف إلى تطبيع الأحوال المدنية والسياسية في العراق. وحدهما هاتان الطائفية والمذهبية تبدوان مالكتي الإذن بالمرور أو الاجهاض لحركة التقدم بالعراق إلى أمام. الشارع السياسي المستفيد وحده من كل ما يجري اليوم على الساحة العراقية هو شارع الأحزاب والقوى السياسية والعقائدية. صحيح أن الانتخابات جرت بمشاركة الجميع السنة انتخبوا من يريدون والشيعة من يريدون وكذلك الأكراد إلا أن الحد الأدنى من الحراك السياسي العام والمشترك لم يتحقق. فحتى الآن لم تتشكل حكومة والخلاف قوي ويتفاقم حول الحصص. لم يكن العراق يوماً في تاريخه قليل الأحلام والأدوار مثله الآن. فيمينيوه كانوا في عصر رشيد عالي الكيلاني طليعة القوميين العرب حاملي راية الوحدة العربية، ويساريوه كانوا واستمروا من بين أبرز اليساريين العرب. وقد كان العراق حجر الزاوية عند إنشاء جامعة الدول العربية فهو إن لم يكن الأول في الدعوة إلى إنشائها إلا أنّه بالتأكيد من الأبرز بين دولها. وكذلك مثقفوه وعلماؤه وشعراؤه كانوا باستمرار في مقدمة المبدعين من أبناء أمتهم والمنطقة وحين لا يغزر العدد يعوض المستوى الإبداعي للأفراد الاستثنائيين. ولا ينسى صاحب هذا المقال أنّه أثناء زيارة له إلى العراق ذهب إلى المتحف العراقي في بغداد فلفت نظره كثرة الإشارات في أماكن متعددة من المتحف الفسيح إلى أن المعروض هو أقدم ما صنعه الإنسان من ابتكارات ومخترعات في هذا النوع أو ذاك من إنتاج العقل البشري، ولم أتمالك من أن أقول للدليل الخبير الذي كان يطوف بي في المعرض إن ما شاهدته جعلني أعتقد أن العراق كان في تاريخ هذا العالم بلد البدايات في سلم ارتقاء المجتمعات البشرية. فما كان من صاحبي إلا أن أجاب أن العراق كان فعلا بلد البدايات في تقدم البشرية، مضيفاً إن بداية التمدن البشري كانت كما يؤكد المختصون في بلاد بابل وآشور، وأنّه هناك بدأت رحلة تأنسن الإنسان بالمعنى الحضاري للكلمة! ولكن كل هذا المجد التاريخي محجوب الآن بمشهد الانقسامات السياسة والتفريط بالسيادة ولاسيما المذهبيات الحادة على نحو لم تعرفه إلا بلدان قليلة في العالم. والواقع إن كلمتي القومية واليسار لم يجر التداول بهما في وصف الحياة السياسية في أي وطن عربي كما وصفت بهما الحياة السياسية العراقية لمدة طويلة من الزمن. وفي الأمثال العربية: لا يأتي الترياق إلا من العراق. وهكذا استمر إيمان الشعوب العربية على مر الايام، بل المثقفون بصورة خاصة، قوميوهم ويساريوهم على حد سواء. إن ما يجري في العراق في هذه الأيام هو محاولة تصالح بين أطراف مفترض أنها متصالحة، ولكن هذه الأطراف لا تبدو مقتنعة أن تصالحها يقويها. وها هي غير قادرة اليوم على ممارسة الحد الأدنى من الحكم، أو الإدارة، تاركة العراق والعراقيين أمام محن تدفع بالعراقيين إلى تهجير جديد.