سبق أن ذكرتُ مراراً أن علاج الخلل الذي يعاني منه تعليمنا يحتاج إلى نظرة متأنية وتشخيص علمي دقيق، وعلى أساس التشخيص تبنى السياسة الإصلاحية، أما استعجال الخطط ورصد الميزانيات العالية لها وفقا لأفكار ومقترحات وتصورات وتصريحات تأتي من هنا وهناك ليست مبنية على دراسات وأبحاث فلن يجدي نفعا، والدليل أن كل المشاريع والبرامج التطويرية التي أنفقت عليها الملايين في السنين الماضية لم تعط النتائج الملموسة كما هو منتظر، فلا المباني المجهزة ولا التقنيات ولا الابتعاث إلى الخارج ولا التدريب على الاستراتيجيات الحديثة وغير ذلك سيتكفل بالحل طالما أننا لم نتوصل إلى تشخيص واقعي لأزمة التعليم. وأي حديث يدور عن مشاكل التعليم أو عن ضعف البنى التحتية دون التطرق إلى عوامل مهمة وراء أزمة التعليم هو محاولة للتهرب من المسؤولية، وصرف النظر عن المشكلات الحقيقية والأسباب الكامنة وراءها، فالحديث عن الإصلاح يجب أن يبدأ من البداية، بالسؤال عن الهدف من التعليم؟ عندما يتحدد ما الذي نريده من التعليم؟ وما شخصية الطالب والطالبة التي نتطلع إليها؟ وما المستقبل الذي ننشده للوطن ولشبابه؟ وما المشروع الحضاري الذي تريد أن تحققه الدولة ومطلوب أن نشارك فيه؟ عندها تتحدد خطواتنا وفي أي طريق يجب أن نسير. أما الرؤى الضبابية والخطط الهلامية ذات العبارات الرنانة التي تشدق بها واضعوها، ورددناها طويلا فلم ولن تنفع لأنه ليس لها نصيب من الواقع، فقد تعاملت تلك الخطط مع الطالب والطالبة على أنهما صناعة يمكن أن تنتج في مصنع بمفهوم المدخلات والمخرجات، لذلك ظلت المدارس ووفقا للأمزجة نهبا للتغييرات المتتالية، في كل سنة تغيير، مرة بالحذف ومرة بالإضافة ومرة بالتعديل ومرة بالإلغاء، تغيير في المناهج، أو في الاختبارات، وآخر في طرق التدريس أو في الوسائل والكتب، كتاب للمعلم يلقنه ما يكتب وما يقول وما يفعل، وكتاب للطالب محدود ومسطح لا يغريه بالمزيد، تحولت المهارات إلى هدف لاوسيلة، وبذلك أصبحت الحصص الدراسية خالية من الثراء والتشويق، مملة منفرة بسبب سطحيتها وفقرها. مسألة أخرى مهمة تتعلق بالتطوير الذي نفذ وسط أجواء فيها الكثير من التقليد والمباهاة والمجاملات والهدر وضعف المحاسبة، الأمر الذي أدى إلى تضخيم أعمال لا تستحق، وإغفال أخرى مهمة، وتقديم أشخاص واستبعاد آخرين بسبب افتقاد الموضوعية في المعايير والتقييم، والتركيز على الشكل دون المضمون، وهذا نوع من الفساد انعكس على ثقافة العمل التربوي وأخلاقياته، وساهم في تراجع قيمة العلم والمعرفة. إن أردنا أن نبني إنسانا حرا جادا طموحا عقلانيا قادراعلى حل مشكلاته فإننا بحاجة إلى تعليم يتوجه بمنهجه وأسلوبه ومضمونه إلى تنمية ذهنيته وعقله وروحه واستقلالية فكره، وكل ذلك لايتطلب تكاليف مادية ولا موازنات عالية.