الوفاءُ عند العرب من أهمِّ الُمثل العليا، ومن أجلِّ الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان، ومن أبرز صفات العرب التي تفاخر ويتفاخر بها قادتهم وأشرافهم وأُمراؤهم وشعراؤهم. فجزيرةُ العرب منبعُ العروبة الأصيل، ومنبتُ خلالها وأخلاقها النبيلة، ويعدُّ الوفاء من القيم والمعاني النبيلة التي اشتهر بها العرب قبل الإسلام حتى قبل الإسلام. كما أن ثقافتنا الإسلامية والعربية مفعمةٌ بمعاني الوفاء وقصص الوفاء، ومن المشاهير في عالم الوفاء كما تعلمون، السَّمَوْأَلِ حاكم تيما في العصر الجاهلي، الذي قُتل ابنه أمام ناظريه، بسبب وفائه لأمرؤ القيس في القصة الشهيرة ، فرفض تسليم عتاد وعائلة امرىء القيس، الذين استودعهم لدى السَّمَوألِ! لماذا فعل ذلك؟ ليكون وفيّاً مع نفسه ومع قيمه ومع الآخرين، وحتى لا يلحقه الخزي والعار، فما الذي حصل؟ خلَّد التاريخ ذكراه وأصبح أيقونة الوفاء. وَفَيْتُ بِأدرع الْكْندي إني*** إذَا ماخَانَ أقْوامٌ وَفَيْتُ كما يأتي في سياق مناسبات التكريم التي يقيمها ولاة الأمر للاحتفاء بالبارزين والمجتهدين من أجل رفعة الوطن في كافة الميادين نوع من أنواع الوفاء. فنحن ولله الحمد والمنة مجتمع وفيّ، بطبعه فالوفاءُ يحيطنا كما السوار بالمعصم، تربينا على الوفاء وتعودنا عليه، ومارسناه سلوكاً ممتعاً، في شتى مناحي حياتنا ولا يمكن لنا أن نكون غير ذلك أبداً، فما دعاني لهذه الموضوع لتذكير نفسي أولاً وتذكيركم بأنَّ هناك فئة من المجتمع في أمس الحاجة إلى الوفاء، يؤسفني أن أقول إنها فئة تعاني النكران والجحود والتجاهل والإهمال، فئة لا ينبغي لنا أن نعاملها كمجتمع بهذه الطريقة، ألا وهي فئة المتقاعدين، هؤلاء الذين ضحوا من أجلنا بالكثير، وبذلوا وأعطوا وبنوا وزرعوا لنكون في أفضل حال، أوفوا بما عاهدوا، ولم نوفيهم بما عاهدناهم، لم نجزهم بما عملوا ولم نحسن إليهم كما يجب. أيعقل أن نكون غير أوفياء مع أبائنا وأمهاتنا، أيعقل أن نكون غير أوفياء مع من علمونا ودرسونا، أيعقل أن نكون مجتمعاً جاحداً! إذا لم نحتفِ ونفتخر بالمتقاعدين بمن نفتخر إذاً؟ فئة المتقاعدين تعاني وكم تعاني، تعاني من نقص في جوانب متعددة، منها ما هو نفسي ومنها ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو ترفيهي فئة تحتاج منا إلى وقفةٍ جادة، إلى لفتةٍ صادقة، إلى موقفٍ إيجابي تجاهها، كلنا سنكون متقاعدين يوماً ما، في كل بيت من بيوتنا متقاعد، فمتى نقوم بدورنا كأفراد ومجتمعات ومؤسسات؟ متى نوفيهم حقهم علينا. ومن أوجه الوفاء للمتقاعدين التي كان يجب أن يقدم لهم عند تقاعدهم، التأمين الطبي، وتوفير فرص العلاج بيسر وسهولة، وكل ما يتطلبه وضعه الصحي. كذلك من أوجه الوفاء للمتقاعدين إنشاء نوادٍ اجتماعية يقضي فيها المتقاعد أوقاتاً مفيدة تعود عليه بالنفع والفائدة، يُقام فيها النشاطات والفعاليات في المجالات المختلفة الثقافية والأدبية والدينية والرياضية ومن الممكن أيضًا إعفاؤهم من رسوم الخدمات الحكومية لتأشيرة الخادمة والسائق والممرض أو الممرضة، فألم يئن الأوان لمنحه الخدمات مجانية أو مخفضة على الأقل، وهو في هذه السن المتقدمة ومن الوفاء للمتقاعد أيضاً توقيره وتقديره والاهتمام به - أيضا - عبر انظمة رسمية إلزامية، عند مراجعة الوزارات والإدارات الحكومية، ودعوته للحفلات والمناسبات الوطنية، وإلزام شركات تأجير السيارات والبنوك وشركات التأمين على إعادة النظر في التعامل مع المتقاعد، وإيجاد صيغة رسمية لتقديم الخدمات له، وعدم تجاهله أو رفض التعامل معه لسبب أنه متقاعد. لماذا لا نبادر؟ لماذا لا نكون مختلفين وسباقين إلى عمل نموذج يحتذى به من إعداد حزمة إجراءات ومشاريع تستهدف المتقاعدين، حيث اذكر هنا مركز الأمير سلمان الاجتماعي لرعاية المسنين في مدينة الرياض، الذي يعد وفاء من الدولة لهذه الفئة، لماذا لا تعمم هذه الفكرة الرائدة لماذا لا يكون هنالك معلم بارز ومنجز حضاري خاص بالمتقاعدين في كل منطقة من مناطقنا؟ ألا يستحقون منا ذلك، لماذا نخجل من مناقشة قضايا المتقاعدين، ألا يوجد لدينا حلول لقضايا المتقاعدين، أين الدور المؤسسي والدور الفردي تجاههم؟ لعلكم تتفقون معي أن المتقاعدين يستحقون منا الشكر والتقدير والثناء والعرفان والوفاء عملاً وفعلاً وليس قولاً.. والله الهادي إلى سواء السبيل.