إن هذه الأمثال التي نضربها هنا امتحاها صاحب هذه الرسالة من متون الفقه في كل المذاهب، وهناك الكثير من الأمثال التي هي شبيهة بما ذكرنا لكن المجال لا يتسع لذكرها، وما نبتغي تبيانه من سردها، هو أنها كلها تشايعنا فيما نقول به، وهو أن قفل الأسواق لساعات كي يذهب الناس للصلاة، والتي خال البعض أنه ينطوي على مصلحة تتمثل في الحث على إقامة الفروض في المسجد والمنع من التهرب عن الصلاة أو الإلهاء عنها، هي محض مصلحة أتت بها الأوهام أو الهواجس والظنون، مِجَنِّي فيما أقول.. هو أن الذي لا يؤدي صلاته طوعاً وعن إيمان صادق، لن يبوء بثبوتها حتى لو صلاها في المسجد، كما أن المؤمن الصادق لا تلهيه تجارة أو بيع عن ذكر الله وأداء فرض الصلاة، وحتى لو افترضنا وجود هذه المصلحة وأنها لم تأت بها أوهام.. فإنها لا تضاهي المصلحة التي تتمثل في جعل الأسواق مفتوحة، فهي الراجحة ولا جدل، فالمرء إذا صلى صلاته عن كره لن تقبل منه في هذه الحال وما يجرؤ على إكراه كهذا إلا من كان في عقله شيء ما، لأنه يزَّاور بفعله هذا عن ما ورد من آيات في محكم كتابه كلها تقول بأن لا إكراه في الدين، ناهيك بأن المصلحة التي يجتبيها المسلم من أداء الصلاة في المسجد هي أن يبوء بعظيم ثواب، أي أنها مصلحة شخصية وفردية، وإن لم يُصَلِّ في المسجد فهو لن ينال ثواباً كصلاته في المسجد، فالمصلحة أقل وإن كان هناك ضرر عليه كشخص، فإنه تتمثل في فواته مضاعفة الثواب عند الله عز وجل، وعليه فإن المضرة (هذا إذا اعتبرناها مضرة) هي مضرة شخصية، ومحال أن تقارن هذه المضرة بمضرة قفل الأسواق ومنع كل الجهات من العمل، إذ أنها ولا مرية - أي المضرة - جد كبيرة على التجارة ومصالح الناس واقتصاد البلاد، فكل التجار يضارون من قفل الأسواق وكل محلات الصناعة سيكون بها عطالة عن العمل بالإيقاف وهو ما ينجم فوات مصالح كبيرة، وكل المراجعين في المكاتب الحكومية والمحاكم يضارون من ذهاب مصالحهم بتوقف الموظفين عن العمل، وكل الذاهبين إلى السوق سيجدون حراجة في التسوق وشراء ما يحتاجونه، وخصوصاً النساء اللاتي يذهبن العصر لشراء حاجاتهن من الأسواق، ولأنهن لا يذهبن دائماً، فإن تسوقهن يكون لشراء حاجاتهن لأيام عديدة.. فيتطاول مكثهن في الأسواق دون إياب، لأنهن لم ينتهين من التسوق، والسبب هو إقفال المحلات عند صلاة المغرب، فيلبثْنَ جالسات على قارعة الطريق، نائيات عن بيوتهن حتى ينتهين من التسوق، بل ان بعضهن قد لا ينتهي من شراء ما تبتغيه خلال الساعة التي تفتح فيها الأسواق بين صلاة المغرب والعشاء، فيتوقفن عن التسوق عند الإقفال بسبب صلاة العشاء (مع أن وقتها واسع) ثم يتابعن التسوق وهو ما يفضي إلى عدم إيابهن إلى بيوتهن إلا التاسعة أو العاشرة وهذا قد يورث شقاقاً مع أزواجهن وبعداً عن بيوتهن وأبنائهن، أي ضيقاً وحرجاً وعنتاً جد كبير أتى من قفل الأسواق وهو ما تأباه شريعة الإسلام بسماحتها ورفقها بالناس ومصالحهم، ناهيك بأن الأثر قد أبان أن وقت صلاة العشاء واسع فهذا ما أورده قتيبة حين قال: [حدثني إسماعيل بن جعفر بن حميد قال: سئل أنس أنه قال: أخَّر النبي صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل علينا بوجهه بعد ما صلى]، وجاء أيضاً في حديث عبدالرحيم المجاري قال :[ حدثنا زائرة عن حميد الطويل عن أنس قال: أخَّر النبي صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ] (انظر : فتح الباري - ج2 - ص64)، ويماثل هذا المسافر الذي يمنع من السفر ساعة من الزمان حتى تنتهي الصلاة بينما الكل يدري أن المسافر ليس ملزماً في أحكام الشرع بالصلاة جماعة أو حتى الصلاة في وقتها، فإقفال محطات الوقود سيؤخر سفره وقتاً ليس بهين، رغم أن النصوص تلزم بالأخذ بالرخص هنا، لأن الله جل وعلى يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولكن إذا كان لسفره ضرورة، فإن تأخيره عنه يُذْهب عليه مصالح كبيرة، كذلك هو الأمر بالنسبة لذلك الذى يحتاج علاجا، فهو قد يكون مضطراً لأخذه في الحال، وإلا حل به الوبال المضرّ لصحته أو المرهق لروحه، كالمريض بالقلب أو السكري أو الكلى أو خلافه، وهذا يعنى أن قفل الصيدليات ساعات من النهار أو أكثر هو مضر لمن ابتلاه الله بداء، بل وعلى أهله وعلى الكثير من الناس الذين هم في حاله، كما أن إيقاف العمل في الدوائر الحكومية، رغم أن صلاة الظهر لوقتها براح يمتد إلى دلوك الشمس، يعطل لاشك الكثير من المراجعين في الدوائر الحكومية وفي المؤسسات والشركات والذاهبين إلى الأسواق، ولا يغالي من قال ان الكثير منهم يضطر إلى الإياب إلى داره خالي الوفاض تاركاً شأن معاملته أو ما يبتغي إلى أيام أخر، ولا مدعاة للكلام عن تعطيل النظر في القضايا أمام المحاكم فهو أمر معروف، ولا حاجة لتكرار القول بأن عاقبة إيقاف كافة الناس عن العمل في المتاجر والمصانع هو ضياع ملايين ساعات العمل على اقتصاد البلاد وهذا جَابٍ لمضرة جدُّ كبيرة على اقتصاد الدولة، فها نحن نرى الكثير من الديار الأجنبية تحسب ما حلَّ بها من خسارات إذا ما أضرب عدّة ألوف من العمال عن العمل في المصنع أو غيرها من الشركات، فهم دائماً يحصون ساعات العمل التي ولّت في يمّ الاضرابات، بل ويدرسون مدى الضرار الذي حاق بالإنتاج وما أورث من آثار بائرة على الاقتصاد، وهذا لا مرية هو الذي دفع علماء الاقتصاد إلى التأكيد بأن مآل الإضرابات إذا ما تكررت أياماً في السنة هو المضرة المتمثلة في ضياع ملايين من ساعات ونقص الإنتاج، فقد شاءت صروف الأيام أن أمضي في فرنسا سنين طوالا، ورأيت أن كثرة الإضرابات من عمالها [إذ هي من الأمور التي يستطيبها الفرنسيون لأنهم بطبيعتهم مشاغبون] أورثت الغوائل على اقتصادها، هذا إذا عرفنا بأن لا نص في الشرع يحرم فتح الأسواق عندنا وقت الصلاة، وإذا عرفنا أيضاً بتغير الأحوال وتطور البلاد في كل مناحي حياتها، فما كان قرى صغيرة في المملكة غدا حواضر كبارا وهذا يتلوه تشابك واختلاط في ظروف المعيشة وازدياد المشقة على من لديه عمل، وما لا يغرب عن ذهن من له معرفة بأحكام الشريعة هو أن أحكامها تتغير طبقاً لتغير الظروف والأحوال، فالإمام ابن القيم الحنبلي يقول بعدم التكليف بإنكار المنكر أورث ذلك مفاسد (انظر : علام الموقعين ج3 ص14/22)، كما أن الامام ابن عابدين الحنفي يقول في رسائله: إن كثيراً من الأحكام تتغير بتغير الزمان، فحِرَفُ أهله تتبدّل وهو ما قد يأتي بضرورة، وعليه فإن الحكم لو لبث على حاله لجمَّ بمشقة ومضرة على الناس فيزَّاور بذلك عن قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ودرء الحرج والمضرة (انظر: رسائل ابن عابدين - ج3 - ص125، وانظر أيضاً: سلام مذكور - نظرية الإباحة عند الأصوليين ص336 - ط عام 1965)، وهذا يعني أن هناك حاجة عامة لفتح الأسواق تنزل منزلة الضرورة، فإذا كانت الكثير من العقود قد أبيح استثناء من القاعدة العامة القائلة بالتحريم بسبب المصلحة التي يحتبيها المسلمون منه، كعقد السَّلَم الذي استثني من الحديث الشريف :[لا تبع ما ليس عندك ] والقرض الذي هو بيع دين أجيز هو بدوره استثناء من منع التصرف في الدين.. إلخ.. (انظر: المغني لابن قدامة - ج18 - ص596، وكشاف القناع للبهوتي - ج6 - ص194)، فإن ترك الأسواق مفتوحة هو أمر تلزم به قواعد المصلحة في الشريعة، هذا إذا عرفنا بأن لا نص يحرم فتحها.. كما هو الأمر بالنسبة للسَّلَم وغيره.. وإذا عرفنا أيضاً بتطور الحال عمرانياً واقتصادياً واجتماعياً فما كان قرى في ماضي السنين تغير وأضحى حواضر كبيرة، أي أن الظروف تغيرت والمصالح كبرت وتشعبت.. الأمر الذي هَمَا بمصالح كثيرة تعطيلها له لاشك بالناس ضرار (انظر: مذكور - نظرية الإباحة - ص336). هذا وقد ساق الأصوليون أدلة على اعتبار الشرع أن المرام من تشريع التكاليف هو تحقيق مصالح العباد، وهذه المصالح إما دنيوية أو أخروية، فالدنيوية هي الأعمال.. التي هي مقدمات لنتائج المصالح.. أي أنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب، وعليه فإن مآلات الأعمال إما أن يؤخذ بها شرعاً أو العكس، فإن أُخِذَ بها فهو المطلوب، وإن ذُهِلَ عنها... فإن مآلاتها الخابية تكون مضادة لمقاصد تلك الأعمال، ومن ثم فإنه يلزم إطراحها، لأن التكاليف إنما شرعها الحق جل وعلا لمصالح العباد، ولا مصلحة مع إمكان وقوع مضرة تضارعها أو تزيد، فالشارع مثلاً يقدم المصلحة الضرورية على الحاجية والأصلية على المكملة، والنفس على المال، والعامة على الخاصة، والمحققة على التي شيدت على أوهام، فالمآلات تعد من أصول الشرع وجاؤنا في هذا قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وقوله تعالى : (رسلاً مبشرين ومنذرين كي لا يكون للناس حجة بعد الرسل) (انظر : حامد حسان – نفس المرجع ص 198) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، وقوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال المسلمين بالإثم)، وقوله تعالى : (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، وهذا كله يؤكد أن الشرع يحرم الفعل أو يجيزه تبعاً لما يُفْضِي إليه أو ما يؤول له (انظر : المرافقات للشاطبي - ج4 - ص195) . - وهب - رعاك الله - أن ذلك الذي شَرّع قفل الأسواق في اللائحة التنفيذية قد اعتضد على قاعدة سد الذرائع، وذهب إلى أن ترك المحلات مفتوحة هو ذريعة لتهرب الناس عن الصلاة، فالثابت هو أن حجته هنا داحضة، وآية ذلك هو أن الأخذ بقاعدة سد الذرائع له اشتراطات، الشرط الأول: هو أن يكون الفعل المأذون فيه (أي ترك المحلات مفتوحة) ذريعة إلى مفسدة، إلا أن الامام الشاطبي يقول:[ أن لا مصلحة تتوقع مطلقاً مع إمكان وقوع مفسدة تضاهيها أو تزيد] (انظر: الموافقات - ج4 - ص196، وحامد حسان - المرجع السابق – ص203)، ولا أحد تذهب به الظنون إلى أن قفل المحلات جَابٍ لمصلحة، كما لا أحد يخال أن ترك المحلات مفتوحة سيُذْهِبُ مصلحة على المسلمين تضارع أو تزيد على قفلها عند كل فرض، فالمصلحة التي غابت كما ظن البعض، أي صدَّ الناس عن الصلاة هي مصلحة شيدت على الأوهام القائلة بأن تركها مفتوحة سيفضي إلى ذلك، والشرط الثاني: أن تكون المفسدة المتذرَّع إليها بالفعل المشروع مماثلة أو راجحة على مصلحة ذلك الفعل، ولا أحد يخال أن المصلحة المجتباة من قفل المحلات وقت الصلاة تساوي المصلحة التي تأتي من تركها مفتوحة، إذ لا مصلحة تُجتبى للناس من وقف سير الحياة، ولهذا يقول الامام القرافي في فروقه :[إذا أَرْبَتْ مصلحة الفعل المشروع - وهو هنا فتح المحلات - على مفسدته فإن الفعل لا يمنع] (انظر: الفروق للقرافي - ج2 - ص33، وأيضاً: حامد حسان - المرجع السابق - ص203)، بل ان الامام القرافي ضرب الأمثال عن أفعال ربما تكون ذريعة إلى مفسدة ومن ثم فهي قد منعت لرجحان مصلحتها على المفسدة، كالمنع من تلقي الركبان، فتلقيهم في الأصل جائز شرعاً، إلا أن التلقي مُنع ذريعة إلى مصلحة راجحة وهي مصلحة أهل السوق وهي مصلحة عامة (انظر: الموافقات - ج2 - ص352)، ولا جدل أن هذا ينطبق على ما نطالب به، فترك المحلات مفتوحة والناس يعملون - وهو أمر مشروع - له مصلحة تفيض على مصلحة يُظن أنها تأتي من الإقفال، الأمر الذي يجعل اشتراع قفل الأسواق غير جائز شرعاً، أما الشرط الثالث: أن يفضي الفعل المأذون به كثيراً إلى المفسدة (انظر: حامد حسان - المرجع السابق - ص206) فهذا شرط لازم، ولا أحد يخال بحال أن ترك الأسواق مفتوحة سيفضي إلى مفاسد، ومن يذهب إلى ذلك فهو واهم - كما ذكرنا -، وقد ضرب الفقهاء الأمثال لذلك، إذ قالوا إن التجاور في البيوت أمر مأذون لما للمصالح الآتية منه وهي مصالح حاجية أو ضرورية، ولكن قد يفضي نادراً إلى مفسدة الزنا وفي هذا يقول الامام القرافي :[ لم يمنع التجاور لهذه المفسدة فهي متوهمة ونادرة لا تحصل إلا في الأحوال فرجحان المصلحة على المفسدة هنا من ناحية أن المصلحة مخففة والمفسدة محتملة ] (انظر : الفروق - ج4 - ص261، وحامد حسان - المرجع السابق - ص208 - 209)، فالعبرة هنا بالمآل من غير اعتبار للباعث، فإن كان المآل يميل نحو المصالح فإن الأخذ به له لزوم.. أما إذا كان المآل هو المضرة فإن منعها لازم (انظر: أصول الفقه للزحيلي - ج2 - ص880 - ط 1986)، وما أسهبنا في تبيانه في سالف السطور يقطع بأن قفل الأسواق ساعات في النهار مآله الحرج والضيق بل والمضرة التي تنزل بالكثير من الناس، ولا يمتري اثنان في أن ما سردناه من قواعد ينطبق على اللائحة التنفيذية لنظام هيئة الأمر بالمعروف الصادر عام 1401ه، فمن شرَّع هذه اللائحة خال بأن ترك الأسواق مفتوحة فيه إلهاء للناس عن الصلاة، وهذا يعني أن القاعدة التي استنها في هذه اللائحة شيدت على ظنون. وبعد... فإن إقفال المحلات هو محض عُرف سار عليه أهل نجد في غابر الزمان عندما كانت حواضره شبه قرى والبون لا شك كبير بين ما نحن فيه وما كان، فالحال تغير لذا لا مدعاة لفرض عرف لا يلزم الشرع به ولم يأمر به ولي الأمر.