يُراهن التقليديون على تشويه الحرية الليبرالية، وذلك في محاولة لإبعادها عن مجال التنافس على الفضاء الاجتماعي، خاصة وأن التقليديين يرون أنفسهم أصحاب سلطة مشروعة للهيمنة على الوعي الاجتماعي، ومن ثم على سلوكيات أفراد المجتمع.. أشرت في نهاية المقال السابق إلى جدلية الحرية مع حدودها أو مُحدّداتها، حيث تقع لعبة الأصل والاستثناء. وقد أكدت أن الحرية إذا كانت هي الأصل المقدس؛ كان الإنسان هو الأصل، وهو المقدس أيضا، وتصبح الاستثناءات/ الحدود/ المحددات مجرد ترشيد حذِر على هامش المتن التحرري. وبهذا يتضح أني لم ألغِ الحدود ولا القوانين الضابطة (التي هي كوابح للحرية؛ ولكن من أجل الحرية)، بل أكدت هذه الحدود والقوانين كهوامش على متن الحرية، الحرية التي يجب أن تكون هي متن الفعل الإنساني، أي حراكه الأسمى. ومنها ينطلق الفعل الإنساني إلى غاياته الأخرى منضبطاً بقوانين الحرية، لا بالقوانين المضادة بالكلية، والتي تقف من الحرية موقف الخصم المناقض أو المناهض أو المرتاب. يشكو التقليدون من (الغموض الليبرالي) فيما يخص حدود الحرية. الإشكالية هنا ليست في الليبرالية ولا في جدليتها مع حدودها، وإنما هي في العقل التقليدي الذي تكوّن بالقيود، والحدود، والموانع، والكوابح التي تصدر عن ذهنية مسعورة بفعل التحريم والتجريم. بل وزيادة على ذلك، يقوم كثير من التقليديين عن وعي بتزييف مفهوم الحرية الليبرالية، وذلك عن طريق ربطه ب(حرية الفوضى) من جهة، وب(الانحلال الأخلاقي) من جهة أخرى. وكل ذلك من أجل إقامة حواجز نفسية تحول بين الليبرالية وبين التلقي الاجتماعي الطبيعي لها كخطاب في التحرر الإنساني. يُراهن التقليديون على تشويه الحرية الليبرالية، وذلك في محاولة لإبعادها عن مجال التنافس على الفضاء الاجتماعي، خاصة وأن التقليديين يرون أنفسهم أصحاب سلطة مشروعة للهيمنة على الوعي الاجتماعي، ومن ثم على سلوكيات أفراد المجتمع. وهذا يعني أن التقليديين يمارسون سلطة تعود عليهم بكثير من المنافع المادية والمعنوية، وهم يعرفون أنها سلطة مرنة، مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بمستوى القناعة الاجتماعية بهم. فإذا ما تحولت القناعات الاجتماعية إلى مبادئ أخرى غير تقليدية؛ نتيجة اختراق المذاهب التحررية للوعي الاجتماعي، فلا سلطة لهم. وهذا شأن أي فكر يتحول إلى سلطة. والفكر الديني التقليدي بطبيعته مرتبط بنفس تسلطي يجعله في حالة حرب صريحة مع كل الخطابات الأخرى التي تطرح نفسها في حدود المجال الحيوي لنفوذه المعتاد. ما الذي سيحدث لجماهير التقليديين لو عرفوا أن الليبرالية هي التي ستمدهم بأوسع فضاءات التحرر الإنساني، وأنها في الوقت نفسه لا تتعارض مع الإسلام كمعتقد أساسي وأصيل، وغير قابل للتبديل أو التغيير؟. ماذا لو اقتنع أفراد المجتمع التقليدي أن لا شيء يمنع المرء من أن يكون ليبرالياً ومسلماً في آن؟. في مثل هذه الحال التوافقية؛ أين ستذهب سلطة التقليديين التي يمارسونها من خلال وعي اجتماعي فقير مستلب على أيديهم؟. يقول المفكر الفرنسي/ أوليفييه روا في كتابه الرائع (الجهل المقدس) ص320 : " تقاوم السلطات الدينية ما ترى فيه مخاطرة توفيقية". وإذا كان هذا هو سلوك السلطات الدينية مع الأديان والمذاهب الأخرى، فهي كذلك مع المذاهب الفكرية التي تُنافسها على أرض الواقع. ومن هنا نفهم كيف أن التقليدية في الخطاب المحلي باتت تتعامل مع الليبرالية كمذهب ديني. وهذا يتضح من خلال مقابلتها الليبرالية بالإسلام، حتى إنك لتسمع كثيراً من التقليديين يطرحون مسألة استحالة الجمع بين الليبرالية والإسلام؛ مُحتجّين باستحالة الجمع بين المسيحية والإسلام! يقول أحد كبار وُعّاظ التقليدية محاججاً الليبرالي المسلم : كيف تقول: أنا مسلم وليبرالي؟ هل يمكن أن تقول: أنا مسلم ومسيحي؟!، لا يمكن أن تكون مسلماً ومسيحياً في وقت واحد، كذلك لا يمكن أن تكون مسلماً وليبراليا في وقت واحد. هكذا يُحاجج التقليديون الحضورَ الليبرالي، حيث يُحوّلون الليبرالية عن جهل فاضح، أو عن تزييف مُتعمّد إلى نِحْلة دينية لا يقتنع المرء بها إلا بالتنازل عن الإسلام! إن التقليديين يقولون بأسلوب تزييفي ينطوي على مكر مفضوح: إن أعجبتك مبادئ الليبرالية، وأردت أن تكون ليبرالياً؛ فعليك أن تتنازل عن دينك. وبما أن المسلم الحق لن يتنازل عن دينه، ولا عن شي من دينه، مقابل أي عرض دنيوي، فسيقوده هذا الحِجَاج التقليدي الماكر إلى رفض الليبرالية؛ ليسلم له دينه، بعد أن تم وضعه على طرفي خيار! كلنا يعرف أن محاولات التوفيق والتقريب بين الأديان والمذاهب غالباً ما تفشل. والسبب أن التوفيق لا يخص المبادئ الدينية؛ بقدر ما يخص حدود سلطة رجال الدين. إنه في حقيقته تقريب بين سلطات، بحيث يصبح التوفيق أو التقارب هنا، تنازلاً عن سلطات يتم حسمها من رصيد القناعات الاجتماعية بالسلطة الدينية لرجال الدين أو لرجال المذهب. ومن هنا نرى أن الجهد الحقيقي لرجال الدين الذين يشتبكون مع علائق السلطة الاجتماعية ينصب في تكبير وتضخيم أوجه المفاصلة العقائدية والفقهية، إنهم يركزون على نقاط الاختلاف ويُضخّمونها، ويضخون فيها شحنات من الشرعية العقلية والعاطفية؛ لأن أوجه المفاصلة ونقاط الاختلاف هي ما تصنع الهوية الدينية أو المذهبية، أي هي ما تصنع معالم حدود سلطة رجل الدين، داخل الدين الواحد أو المذهب الواحد. هنا نرى كيف أن الحرية الليبرالية لم تعد مجرد مفردة تبحث لها عن مشروعية في السياق الاجتماعي، وإنما أصبحت على يد الواعظ التقليدي منافساً سلطوياً يهدد سلطة الوعظ التقليدي. ولهذا، يجب في تصور التقليديين محاربة هذه الحرية، ومُطاردتها بتشويهها، بل وشيطنتها. يجب في تصور التقليديين ربط الليبرالية بالفوضى، وبالانحلال الخلقي ابتداء؛ وانتهاء بتعميدها في الوعي كنقيض ضدي للحضور الديني من الأساس. إن كراهية التقليديين للتوجهات الليبرالية يسير في اتجاهين: الأول يظهر في تشويه متعمد للتيار الليبرالي بوصفه تياراً منافساً يسعى لاقتطاع ما يستطيع من كعكة السلطة الاجتماعية التي يمارسون الهيمنة عليها بامتياز. والثاني يظهر في كراهية متأصلة في الذهنية التقليدية للحرية والديمقراطية. ولم يبعد جورج قرم عن الحقيقية عندما أكّد في كتابه (العرب في القرن الحادي والعشرين) ص193 قائلاً : "نرى دائما أن بعض رجال الدين المتشددين هم الذين يُوظّفون من قبل السلطة لردع أية نية في إعادة الحيوية والحرية إلى مجتمعاتنا" . هذا ليس مجرد تصور ذهني، بل هو واقع تشهد به السلوكيات القولية والكتابية والعملية لرجال الدين التقليديين المتعصبين، الذين إن طالبوا بالحرية فلا يقصدون أكثر من حريتهم في الترويج لمقولات التطرف والعنف والتزمت المرضي. إن الليبرالية لا تتعارض مع الإسلام كما يدعون، وإنما تتعارض من تفسير مرضي متزمت للإسلام. ولأن الليبرالية تنتمي إلى موروث آخر، أي إلى تجربة فكرية وعملية تبلورت ولا زالت تتبلور خارج فضاء الذات العربية/ الإسلامية، فقد كان الجهل الجماهيري بها مُمهّداً لمزيد من التجهيل المتعمد بها من قبل التقليديين. لقد استغل هؤلاء الذين يمتلكون تفسيرات متزمتة وعدوانية، بل وإرهابية للإسلام كل هذا الجهل الجماهيري، وراهنوا عليه لوضع الإسلام كمقابل ضدي لكل التوجهات الليبرالية على اختلافها وتنوعها، خاصة وأن الليبرالية بفضاءاتها المتحررة، والقابلة لكثير من أشكال التنوع تدخل المصطلح الليبرالي ذاته في دائرة الغموض، ويتأكد هذا الغموض في سياق جماهيرية بائسة تعاني من أعراض الأمية الثقافية التي لا تتجاوز حدود الرائج شفهياً على ألسنة وُعّاظ التقليد. إن الغموض الليبرالي، أو غموض الليبرالية، يتأتى من كونها (اتجاها) وليست (قوانين محددة). وبما أنها كذلك، فالحرية فيها أيضاً ليست قوانيين، وإنما هي اتجاهات تحررية. القوانين في سياق التوجهات الليبرالية يتم وضعها بإيحاء التفاعل الجدلي بين مكونات الواقع بما فيه الواقع الثقافي والروح التحررية التي تحكم المسار الليبرالي. كل هذا يعني أنه لا مكان للفوضى المتوهمة تقليدياً، كما لا مكان للحرية المطلقة التي يجري الترويج لها؛ لأن الحريات الليبرالية التي يستنبتها الليبرالي في تربة الفكر، ومن ثم في مسارات الواقع، ليست حريات متعالية على الواقع، ليست حريات مُحلقة في فراغ، بل هي حريات تتخلق جدلياً من خلال التفاعل مع مكونات الواقع، بما فيه الواقع الديني والثقافي/ الاجتماعي. ومن ثم فليس ثمة حرية ليبرالية ناجزة، يتم استيرادها وتثبيتها في الواقع، لا لأن الواقع يتأبّى على مثل هذا الاستيراد الآلي فحسب، وإنما أيضاً لأن الليبرالية الناجزة غير موجودة أصلاً. فوجود ليبرالية ناجزة يعني أن ثمة إلغاء لبقية التنوعات الليبرالية التي تختلف مع هذه الليبرالية المفترضة، وهذا ما يُعارض الأصلَ الليبرالي. كما أن الاكتمال هو اكتفاء بمنجز لحظة ما، وتحويله إلى حَكَمٍ على ما سواه، فضلاً عن إغلاقه للفعل التحرري، الذي لا يكون تحررياً إن لم يكون متواصلاً. وهذا ما يتعارض مع الأصل الليبرالي أيضا. إن الحرية الليبرالية (فعل تحرر متواصل)، تحرر يتطور في الزمان والمكان. إنها اشتغال على حلول تحررية لا تنتهي لكل صورة من صور الإشكال المجتمعي. وهذا يعني أن لدى الليبرالية مرونة غير عادية تمكنها من الاستجابة لطبيعة المجتمع الذي تفعل فيه. ومن هنا، فكل حرية تجترحها الليبرالية في مكان ما، أو زمان ما، ستكون حرية بنكهة الظرف الزماني والمكاني، أي ستكون حرية بنكهة المجتمع الذي تشتغل عليه، إذ ليس من المعقول بأي صورة من صور التعقل أن تكون الليبرالية المطروحة في هولندا مثلاً، كالليبرالية المطروحة في ليبيا أو اليمن، فحتى جرعات الدواء الضرورية لحياة الإنسان يجب أن تتلاءم مع طبيعة المريض من جهة، وأن تكون جرعات مقننة مضبوطة بطبيعة تفاعل الجسد معها من جهة أخرى. لكن، هل يعني هذا الارتباط بالواقع المجتمعي أن الليبرالية ستكون مجرد إعادة إنتاج للمجتمع القائم، دون إدخال شيء من التحرر المتجاوز عليه؟ الإجابة بالنفي قطعاً. فكون الليبرالية هي نبت الزمان والمكان (= المجتمع في لحظة ما) هذا هو الشق الأول من معادلة التفاعل، وبقي أن الشق الثاني هو تفاعل منظومة الرؤى العامة مع التراث الليبرالي، لا في مسيرته التاريخية الخلاّقة فحسب، وإنما في تفاعله الراهن مع واقعه المتحقق، ومع مستقبله المُتصوّر أيضا. إنه وبصورة بيانية تقليدية للتوضيح استنبات فكري/ إيديولوجي؛ حتى وإن بدا في صورة: تهجين. فالبذرة الليبرالية هي بذاتها كمبادئ عامة لم تتغير، بيد أن التربة والمناخ سيحكمان مسار هذه البذرة، وستكون الشجرة بالضرورة بنت بيئتها؛ بقدر ما هي تعبير حيوي عن هوية البذرة التي سيكون وجودها في مناخ مغاير إبداعاً في الخلق الإنساني، أي سيتحقق ذلك الإبداع الذي لا يكون إلا في الاختلاف.