الرياض - السعودية يُمكن إحالة جميع المشكلات التي يُعاني منها العالم المتخلف إلى غياب الحرية. هذا إذا ما نظرنا إلى المسألة في عمقها الذي يتجاوز حدود اللحظة الراهنة إلى حيث كانت إشكاليات التشكل التاريخي. كما يكمن تَسْبيب هذا الغياب، وهذا التغييب الذي يجري على قدم وساق في الفضاءين: الفكري والواقعي، برده إلى غياب الفهم الواعي للحرية وشروط تموضعها في الواقع. وبما أن الليبرالية هي أسمى خطاب للحرية، فإن إساءة فهم الليبرالية كخطاب تحرري هو أحد أوجه الارتياب بالحرية، الارتياب الناتج عن إساءة الفهم، أو عن تعذر الفهم؛ لأسباب ذاتية وموضوعية في آن. في جملة كاشفة عن حيوية العلاقة بين الفكر والواقع، يقول ماركس: إن الفكر الذي يبني الأنساق الفلسفية في أدمغة الفلاسفة هو الفكر نفسه الذي يبني السكك الحديد بأيدي العمال، الفلسفة لا توجد خارج العالم. (من الحريات إلى التحرر محمد عزيز الحبابي ص 188). وهذا يعني أن ما نؤسس له في عالم الفكر؛ نؤسس له في الوقت نفسه في عالم الواقع. إننا نصنع واقعنا إذ نصنع أفكارنا. ومتى ما حدث اضطراب، أو إساءة فهم، أو تأشْكُلٌ في عالم الفكر انعكس هذا بالضرورة على عالم الواقع. يحق لنا أن نتساءل فنقول: إذا كانت الليبرالية خطابا في التحرر الإنساني؛ فلماذا يرتاب بها المجتمع التقليدي المحكوم بعلائق التخلف إلى حد التكفير؟! وإذا كانت الحرية ليست حكرا على الليبرالية كما يقول بعضهم ؛ فلماذا يتم تخصيصها بالإدانة المسببة برفض التحرر الليبرالي. هذا الرفض يدل على أن في التحرر الليبرالي ما يفوق خطاب الحرية المعتاد الذي يتخلل كثيرا من الخطابات الإيديولوجية، تلك الخطابات التي تمتهن شعارات الحرية لغايات تتجاوز الحرية، وربما تتجاوز الإنسان. ما يُميّز الحرية الليبرالية في نظري يتحدد في ثلاثة محددات. الأول: كونها مركزية في الخطاب الليبرالي. والثاني: يترتب على الأول، وهو كونها غائية، أي هي وسائل الخطاب في جملة مبادئه، وهي غاياته النهائية. فحتى الغاية الإنسانية التي هي جوهر الوجود الإنساني يتم النظر إليها هنا من زاوية أن الإنسانية تتحقق في الإنسان بمستوى تحقق الحرية فيه. والثالث: أنها حرية فردية، أي تتوجه إلى الوجود الإنساني في تمثله المحسوس، أي في وجوده الفردي/ الواقعي، وليس إلى اسم الجنس العام الذي لا وجود له إلا في الكليات الذهنية، والذي يسهل استلاب الإنسان به من خلال الشعارات التي تتلاعب به كمجموع، أي كافتراض ذهني لا يمكن قياس تحرره في الواقع إلا من خلال تحرر أفراده على مستوى الوجود الفردي. في الليبرالية، الفرد هو صانع عالمه من حيث هو فرد حر. وعندما لا يكون حرا أو تتضاءل حريته؛ يخسر عالمه، أو يتهمّش فيه، يتهمش فيه بمستوى تضاؤل حريته، ومن ثم يُصبح منفيا خارج الوعي الذاتي، وبالتالي خارج الوجود الواقعي. وبهذا يعيش مغتربا كفرد؛ حتى وإن كانت الشعارات الصاخبة تحتضنه بدفئها المزيف الذي لا يسهم إلا في مزيد من الاغتراب. الحرية الليبرالية تبدأ من الفرد وتنتهي بالفرد؛ لأن الفرد هو الحقيقة، وما سواه وهم. صحيح أن الأوهام خارجه تتحكم في فرديته، وتصوغها وفق مقتضيات التصور الكلي. ومن هنا نجد الاهتمامات الليبرالية تشرع فيما يتجاوز الفردي. لكنها لا تفعل ذلك على أساس شعارات متعالية على الفرد، وإنما على أساس أنها اهتمامات فردية في جوهرها. بمعنى أنها تهتم بصياغة ما يتجاوز الفرد، لا لأهمية هذا البعد المتجاوز، وإنما لتطويعه بحيث يخدم الغاية الفردية في نهاية المطاف. الليبرالية تعي أن المجتمع الحر هو المجتمع الذي يتكون من مجموعة أحرار كاملي الحرية كأفراد. لا تؤمن الليبرالية بمجتمعات حرة لا يتمتع فيها الفرد كل فرد بحريته الكاملة في إطار القانون، والذي يجب أن يكون قانونا تحرريا إلى أقصى ما يسمح به الخير العام. وعلى هذا، فأي انتهاك يمس حرية أي فرد داخل المجتمع، تنظر إليه الليبرالية كانتهاك حقيقي (وليس تخيليا) يمس حرية كل فرد داخل المجتمع، بل وبحساسيتها الفائقة تجاه الحريات، تنظر إليه كانتهاك يمس حرية كل إنسان في هذا العالم. ومن هنا ارتياب الليبرالية بكل الرؤى الشمولية التي ترفع شعارات تحررية، إذ هي تراها على مستوى تنظرياتها وعلى مستوى تطبيقاتها في الواقع لا تحتفل بالفرد حقيقة، بل تضحي به في سبيل مجموع موهوم؛ لينتهي الأمر بالأفراد إلى مجرد كائنات آلية معدومة الحرية تماما، لا قيمة لها إلا بكونها تجسيدا لإرادة عليا تلغي الإنسان عقلا وقلبا وجسدا، بحيث تتجسد العدمية كواقع متعين في كل حالة: في كل إنسان. لا ريب أن المجتمعات التقليدية المتخلّفة تقف على الضد من تصوّر الحرية على هذا النحو الليبرالي المنحاز للوجود الفردي. ومن هنا عداؤها التناقضي للتصورات الليبرالية؛ بوصفها تصورات تنقض في العمق بنية المجتمع التقليدي، أي تلغي وجوده بإلغاء ما يكون به مجتمعا تقليديا. يقول د. توفيق السيف في كتابه (حدود الديمقراطية الدينية) ص 162: "يرفض الخطاب المحافظ دعوى الأساس التعاقدي للنظام الاجتماعي، كما يرفض فكرة الهوية المستقلة للفرد". وهذا الرفض الذي يشير إليه السيف صادر عن كون التعاقد في المجتمعات الليبرالية الحديثة تعاقدا بين أفراد ومؤسسات، وليس بين تكتلات قبلية/ عشائرية أو مذهبية أو دينية من جهة، ومؤسسات ضابطة من جهة أخرى، إذ التكتلات (الما قبل حداثية) لها طابع شبه مؤسساتي له تحيزاته الخاصة، وهو مناهض بالضرورة للمؤسسات المدنية التي تتعاطى مع الهوية الفردية المستقلة، أو التي يجب أن تكون مستقلة في علاقتها بهذه المؤسسات. الحرية الفردية في تصوّر المجتمع التقليدي تُشكّل تمرّدا نقْضيا يجب إيقافه. الفرد في المجتمع المحافظ هو جزء من كل، هو وجود مختصر في مجموع، هو ذات غير مكتملة، ولن تجد اكتمالها إلا بتماهيها الفكري والشعوري والسلوكي مع المجموع، ليس فقط كحالة تَشَارُكٍ يمارسها الفرد بخياراته الانتمائية، وإنما كقدر أزلي تَحدّد منذ الولادة، بل منذ ما قبل الولادة، ولا ينتهي بالنهاية المحتومة، بل يبقى متناسلا في عقبه على مدى أجيال (ومن هنا، فرضيات الحسب والنسب، حيث لا يتحدد المصير والخيار بالآباء فقط، بل يبقى مشروطا بما تنتظره الأجيال، حيث يمارس المستقبلُ، كحالة افتراضية متوقعة، تقييدَ حُرّية اللحظة الراهنة ما تفعله بحريتك كفرد هنا؛ يطبع حياة أحفادك هناك!). بطبيعة الحال، لا يلغي التصورُ الليبرالي الواقعَ الذي يحكم الفرد، أي لا يتناول الفرد كذات مستقلة في فراغ كلي، بل يعي أنه مشروط بواقعه المتكوّن من الفعاليات النشطة لمجموع الأفراد. ومن هنا نجد الليبرالية وهي تسعى لتحرير الفرد في وجوده المستقل، تسعى لتحرير مجموع الأفراد؛ على اعتبار أن حرية كل فرد هي حرية كل الأفراد الآخرين. وعندما يقول محمد عزيز الحبابي في كتابه (من الحريات إلى التحرر) ص 98: "التحرر الحقيقي لا يمكن أن يكون سوى تحرر مجموع الكائنات البشرية؛ لذا تبحث الاتجاهات الواقعية عن التحرر في العدالة الاجتماعية"، فالليبرالية لا ترى فيه تصورا ضديا مُخاصما لغايتها في التحرر الفردي؛ حتى وإن كانت رؤيته تصدر عن وحي التصورات اليسارية ذات الطابع الشمولي. والفرق بين الليبرالية والتصورات الشمولية في هذا المجال، يكمن في أن العدالة الاجتماعية هي وسيلة لتحرر الفرد في التصور الليبرالي، وليس غاية يتم الوصول إليها من خلال إلغاء الفرد/ إلغاء الإنسان، كما في التصورات الشمولية التي لم تحقق على أرض الواقع سوى المساواة في الفقر/ البؤس العام. لا وجود لإنسان حُرّ مرهون إلى ضرورات الحياة، بحيث تُختصر حياته إلى الصفر، فيصبح إنسانَ الضرورة؛ لا إنسانَ الحرية. واضح أن الإنسان الذي يصبح مجرد آلة في يد الرأسمالية المتوحشة هو إنسان يخسر حريته، حتى ولو خسرها بمحض إرادته. إن إرادته التي تبدو مستقلة هنا، إنما تُعبّر عن محض ضرورته. ومن هنا أهمية التشريع لما يحفظ الحقوق الفردية في عالم يختصر الإنسان إلى الضروريات. لكن، لا يصح أن يتم ذلك في عالم يتبارى في صناعة القوانين الشمولية، فهذا عالم فاسد من حيث أساس وجوده، وإنما يتم ذلك في مجتمع حر، في مجتمع السوق المفتوح، السوق الرأسمالي الحر، ولكنه أيضا السوق الذي يتم كبح جماحه بالقوانين المنحازة للإنسان الفردي في مواجهة المؤسسات النافذة سياسيا واقتصاديا، لا أن يحدث العكس، فتغدو هذه القوانين الكابحة هي الأساس الذي يعرقل حركة الإنسان. إنها لعبة الأصل والاستثناء، المتن والهامش، فمتى كانت الحرية هي الأصل المقدس (الأصل الذي يُعَد بذاته غاية، لا وسيلة؛ مهما كان وسيلةً إلى أنبل الغايات)؛ كان الإنسان هو الأصل، وتصبح الاستثناءات مجرد ترشيد حذِر على هامش المتن التحرري. لكن، عندما يصبح الأمر بالعكس، كما في الأنظمة الشمولية، حيث القيود والاستثناءات التي تحد من الحرية ولا تحددها! هي الأصل، والحرية المضطهدة التي تتوارى خوفا وخجلا عند كل منعطف هي الهامش المهمش، تنتفي الحرية بالكامل. وهذا هو ما يجعل من الليبرالية أسمى صور التحرر الإنساني؛ إذ هي تتغيا التحرر الذي هو جوهر تفعيل الإنساني في الإنسان، ومن ثم فالعملية التحررية هي غايتها التي تحكم توجهاتها العامة، بصرف النظر عن الأخطاء التي تقع نتيجة عجز عن مقاربة أفق التصور، أو نتيجة فشل في تحقيق الممارسة وفق مقتضيات التصور، أو حتى نتيجة الإيمان الدوغمائي ببعض مبادئ الليبرالية، حيث تتعالى الإرادات الفاعلة عن أخذ الشرط الواقعي بعين الاعتبار.