يسميها أصحابها (مهنة المتاعب)، ولا يكفي في تعب من يزاولها أن طبيعة هذه المهنة تعتمد على العمل الميداني الدؤوب المتواصل، على اختلاف أحوال الطقس برودة وحرارة، وتباعد الأماكن التي يقصدها المعقب لإنجاز ما لديه من معاملات، وتناثرها في أرجاء المدينة المترامية الأطراف، وسط أمواج الزحام؛ إلا أن كل هذا التعب يكاد ينسى أمام نوع آخر من المشقة والتعب أسوأ وأقسى، ألا وهو التعب النفسي المعنوي، والاضطرار لتحمل أسوأ أخلاق التعامل، التي ما زال بعض موظفي الجهات الحكومية يقابل بها المراجعين عموما، والمعقبين على وجه الخصوص. من يعرف خبايا وزوايا مهنة التعقيب، يعلم جيدا أن قدرة الشخص على مزاولتها والنجاح فيها، يتوقفان على مدى تمكنه في اختراق صفوف الموظفين والمسؤولين، والتسلل عبر جدار نزاهتهم الذي يختلف طولا وقصرا بقدر صلاحهم وفسادهم فالمعقب يكاد يشبه المحامي من زاوية أنه يضطر لاحتمال ما يلاقيه من سوء تعامل أو تلكؤ في تقديم الخدمة له، أو أي خلل أو تقصير يظهر على الموظف الذي يقدم الخدمة، لأنه يعلم أنه لو بادر بتقديم الشكوى ضد هذا الموظف فإن أغلب الظن أن كفة الموظف أرجح، وجانبه أقوى، وستكون العاقبة مستقبلا المزيد من سوء التعامل الممزوج بروح الانتقام والكيد ضده، من هذا الموظف الذي اضطر لتقديم الشكوى بحقه. وهذا الخوف من عدم الانصاف وخسارة النتيجة، يضطر المعقب – كما المحامي – إلى احتمال صنوف الإساءة وسوء الأداء، ويقابل ذلك بدرجة عالية من ضبط النفس، والصبر المضاعف، ولو لزم الأمر أن يقابل ذلك بالابتسامة والشكر الجزيل على الإساءة لَفَعَل، كل ذلك لئلا تكثر معاركه ضد موظفي تلك الجهة الذين يصطفون بحق وبباطل في جانب زميلهم للانتقام من ذلك المراجع الذي تجرأ عليه بالشكوى. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يضطر المعقب أن يحتمل أسوأ صور البيروقراطية والتعقيد الذي يفرضه عليه – بكل سهولة – أصغر موظف في الجهة الإدارية، لا لشيء إلا لأنه معقب يتكرر مراجعته لهم، وإذا كثر الإمساس قل الإحساس والاحترام أيضا. ومن يعرف خبايا وزوايا مهنة التعقيب، يعلم جيدا أن قدرة الشخص على مزاولتها والنجاح فيها، يتوقفان على مدى تمكنه في اختراق صفوف الموظفين والمسؤولين، والتسلل عبر جدار نزاهتهم الذي يختلف طولا وقصرا بقدر صلاحهم وفسادهم، ليمكنه إنجاز ما بيده من معاملات، وتقديم خدمة أفضل لعملائه. ومهنة التعقيب - في ظني وحسب ما ألاحظه - ليس فيها درجة وسط بين النجاح والفشل، بل إما أن تكون ناجحا تماما، أي قادرا على إنجاز المعاملات مهما كانت الصعوبات، ومستطيعا الحصول على الاستثناءات النظامية - أو حتى غير النظامية - وبذلك يمكنك تحقيق طلبات عملائك الذين لو راجعوا بأنفسهم للحصول عليها لما استطاعوا ولوقف جدار (النظام لا يسمح) في وجوههم، وإما أن تكون فاشلا بحيث لا تستطيع إنجاز حتى المعاملات العادية التي لو ذهب عميلك بنفسه لأنجزها واستطاع الحصول على طلبه، لا لشيء إلا لأنك معقب توصف بأنك فاشل، لأنك لم تتعلم من أين تؤكل الكتف!! وفي ظل هذا المناخ الموبوء في مهنة العقيب، أصبحنا نرى الكثير من الإعلانات في مواقع الإعلانات التجارية يقول: (مطلوب معقب متمكن لإنجاز معاملة في جهة كذا وكذا)!!. واللبيب - بل حتى البليد - يفهم المقصود. إن توجه الكثير من الجهات الحكومية والمرافق إلى تفعيل الخدمات الالكترونية، يعتبر من أكثر النجاحات التي حظيت بترحيب ورضا وامتنان المواطن والمقيم، وأسهمت بشكل فاعل في تقليص مساحة الفساد والتلاعب في إنجاز المعاملات، وحافظت على أوقات الناس، وحقوقهم، بل ومشاعرهم وكرامتهم التي كانت قد تتعرض للإساءة من بعض الموظفين الذين غاب عنهم أن سبب تواجدهم في مقاعدهم هو خدمة الناس وإنجاز معاملاتهم. إلا أنه وبقدر التقدم الهائل في شمول هذه الخدمات الالكترونية للكثير من الخدمات والمعاملات التي يحتاجها الناس من الجهات الحكومية الخدمية؛ ينبغي ألا يكون ذلك على حساب الالتفات بالمراجعة والتصحيح لمتطلبات مهنة التعقيب، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: أولا: أن مهنة التعقيب تعتبر من أهم المهن التي وفرت مصدر عيش كريم لآلاف المواطنين من الشباب وغيرهم، وإن تقليص هذه المهنة وقفل الباب في وجه ممتهنيها سيقود إلى رفع نسبة البطالة التي تكافح الجهود الحكومية من أجل تقليلها. ثانيا: أنه لا يخفى أن واقع مهنة التعقيب في السابق كان يتمتع بالكثير من المجالات التي كان المعقب يعمل فيها بكل حرية، دون مراعاة للتخصص، ومن ذلك أن المعقب في السابق كان يقوم بأعمال المرافعة في المحاكم وتمثيل الآخرين في المطالبات الحقوقية، وذلك قبل قصره على المحامين، وبالتالي فقد خسر المعقبون جزءا كبيرا من مصادر دخلهم، فينبغي ألا نجمع عليهم إضافة لذلك خسارة باقي أعمالهم من خلال منعهم من تقديم الخدمات في بعض الجهات الحكومية، والتضييق عليهم دون مراعاة لما تمثله هذه المهنة من مصدر دخل مهم جدا لشريحة كبيرة من المواطنين. فينبغي أن يصاحب التقدمَ الكبير في مستوى الخدمات الحكومية، اهتمام وعناية برفع مستوى مهنة التعقيب والعاملين فيها، وتنظيم ما لهم من حقوق وما عليهم من الالتزامات، والاستفادة من خبراتهم الطويلة التي اكتسبوها خلال السنوات الماضية، وذلك بجعلهم شركاء للجهات الحكومية في تحقيق الهدف، وحلقة وصل منظمة بين المراجعين والجهات الحكومية، في الأعمال التي لا تغطيها الخدمات الالكترونية. وأن يلتفت إليهم بالمزيد من الاحترام والتقدير للدور الذي يقومون به، وإعانتهم على النجاح دون الحاجة للفساد أو الالتفاف على الأنظمة، بل يكون متطلب النجاح الوحيد هو: مدى الجد والاجتهاد والإخلاص والأمانة. وختاما أسأل الله أن يرزق إخواننا المعقبين من واسع فضله، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، والحمد لله أولا وآخرا.