أنا شخصياً لا أصدق النوايا التجارية لشركات الأدوية العالمية ؛ ولكنني في نفس الوقت أثق في إجراءاتها العلمية وتوثيقها لنتائج العقاقير وتأثيراتها الثانوية.. أثق في حرصها على سمعتها وموثوقية منتجاتها واختبار الأدوية الجديدة لفترة طويلة لضمان سلامتها قبل نزولها للمستهلك العادي.. وفي المقابل لاحظ معي ما يجري في دكاكين العطارين وما يسمى بالطب الشعبي.. تشتري خلطة مجهولة التركيب من رجل بالكاد يجيد القراءة والكتابة .. لا تعلم محتواها ولا كيفية تحضيرها ولا تعرف من ركبها أو باعها لك .. خلطة أو تركيبة أو سمها ما شئت لم تحضر في ظروف معقمة وآمنة وخاضعة للتجربة، ولا يعرف أحد تأثيراتها الجانبية أو بعيدة المدى.. وفي ظل هذا الغموض من الطبيعي أن تتعرض للغش والخداع .. غش يتضمن المبالغة في السعر، أو الادعاء بفوائدها العديدة، أو خلط المكونات التقليدية بأدوية صيدلانية مؤكدة النتائج (كبيعك غذاء ملكة النحل مع مسحوق الفياغرا).. والأخيرة أحد أكثر أنواع الغش انتشارا في محلات العطارة هذه الأيام .. وفي هذه الحالة يتم شراء أدوية ذات تأثير حقيقي من الصيدليات وخلطها مع أعشاب ومساحيق طبية تعطي مفعولا حقيقيا وسريعا... فحين تريد أن تبيع خلطة مقوية للجنس مثلا ما عليك سوى شراء حبوب السيالس والفياجرا وطحنها مع العسل أو مسحوق الأعشاب.. وحين يعاني أحدهم من السكر ما عليك سوى شراء حبوب مخفضة للسكر وسحقها مع النشاء أو الدخن اليماني.. وحين تعاني من ارتفاع الضغط ما عليك سوى شراء حبوب تخفيض الضغط وإذابتها في زيت الحبة السوداء أو جيلاتين البقر.. أما آلام العظام والروماتيزم فلا تتطلب أكثر من طحن ست حبات بروفين مع علبتي بندول ثم مزجهما مع سمن اصطناعي وبيع القارورة بمائة ريال.. أما أعشاب تخسيس الوزن فتتضمن أحد 26 نوعا من الحبوب المسموحة في أمريكا لقتل الشهية أو عدم امتصاص الدهون تحضر كمشروب يؤخذ على الريق.. أما آخر ما سمعته بهذا الخصوص فهو وجود عشبة بحرية تباع كعلاج التوحد لدى الأطفال اتضح تضمنها حشيشة مخدرة تسبب سكون الطفل - الأمر الذي يوحي بتأثير العشبة عليه بشكل ايجابي !! والحقيقة هي أن المريض يشعر بتأثير ايجابي وسريع لمثل هذه الخلطات (لأسباب صيدلانية حقيقية) فيبدأ بدوره الترويج لها بين الناس.. غير أن تأثيرها السريع يعود الى الكميات الكبيرة فيها (فبدل أن تأخذ حبة فياغرا واحدة تأخذ بهذه الطريقة ثلاث حبات دون ان تدري) كما أن سحقها أو طحنها يجعلها تدخل مجرى الدم بسرعة كبيرة محدثة مفعولا سريعا (في حين تصنع الأدوية عمدا بشكل حبوب صلبة كي تذوب على مدى طويل قد يتجاوز ال12 ساعة)...!! والمشكلة الأكبر أن بعض المساحيق والخلطات تأتي جاهزة - من الصين وأندونيسيا وفيتنام والهند وكمبوديا- ومتضمنة مواد مخدرة أو مستحضرات صيدلانية غير مسموحة أصلا في السعودية. وبطبيعة الحال احتمالات التجرثم وتراكم الميكروبات في الخلطات المستوردة والمحلية كبيرة جدا - خصوصا أنها لا تتضمن تاريخ انتهاء.. ولأنها لم تجرب أو تراقب على مدى طويل (لمعرفة تأثيراتها الجانبية أو بعيدة المدى) تتسبب بنتائج سلبية خطيرة تتراوح بين التسمم وعطب الكبد.. .. أعرف تماما أن هناك من لا يوافق على كلامي وما يزال يؤمن بفعاليات الطب الشعبي وخلطات العطارين.. ولكن المشكلة لا تكمن في الأعشاب أو التأثير الحميد لبعض الخلطات التقليدية.. بل في تفشي الغش التجاري، وضعف الرقابة والمعايير الصحية، وانتفاء فكرة التجربة (على عينات صغيرة لسنوات طويلة) للتأكد من فعالية الدواء وعدم تضمنه تأثيرات سلبية.. حتى (آخر الطب الكي) ليست حديثا نبويا بل مقولة كان يروج لها أطباء العصر الجاهلي..