توجد في مجتمعنا العديد من المشكلات الأُسرية المُعلَّقة بشكلٍ جعلنا نقبل بها رغماً عنَّا حتَّى أصبحت مقبولة، ولو عدنا إلى ترتيب أوراق المجتمع من جديد؛ لوجدنا أنَّنا كنا مُخطئين حينما قبلناها. ويُعدُّ هجر الأزواج لزوجاتهم أو جعلهنَّ مُعلَّقات سنوات عدة من أكثر المشكلات وجعاً وقهراً للمرأة، وتزداد الأمور تعقيداً وقسوة حين يرفض هؤلاء الطلاق ليزيدوا في إذلالهنَّ وكسر مشاعرهن دون أدنى مبالاة، رغم لوصايا التي جاءت في الكتاب والسنة بشأن تقدير واحترام ومراعاة حقوق العلاقة الزوجية، فهل يُعقل أن يُصبح حال المُعلَّقة مقبولاً، والله تعالى يقول في كتابه:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعلَّقة"، فكيف إذا أصبحت الزوجة مُعلَّقةً بالفعل، كما أنَّ المهجورة أيضاً ليست أفضل حالاً من المعلقة، وهي التي تنام وتصحو على ظلم وتعسف زوجها!. حياة بائسة وقالت "أ.د.فتحية القرشي" –عضو هيئة التدريس بقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة الملك عبدالعزيز-:"هناك من يستخدم بعض الأحكام الدينية استخداماً جائراً ينحرف بها عن مقاصد الشريعة، وقد تكرَّرت وانتشرت هذه الأفعال السلبية من قبل بعض الأزواج، وهي أفعال تتناقض مع الأحكام الدينية ومعايير المجتمع ومفاهيم الرجولة"، مضيفةً أنَّ هذه التصرفات تُمثِّل تجاوزاً لقواعد دينية تُستنبط منها التشريعات الاجتماعية في المجتمع. وأضافت أنَّ تلك التصرّفات تُكلِّف الدولة جهوداً لمعالجتها، موضحةً أنَّ هناك العديد من القضايا في المحاكم والمؤسسات الحقوقية التي تتعلق بتهرب ومراوغة وإهمال بعض الأزواج لحقوق زوجاتهم في التخلص من حياة بائسة ومُهينة مع رجال يملكون سمات الأنانية والتسلُّط والانتقام، مشيرةً إلى أنَّ لهذه الأفعال تبعات خطيرة على الزوجة والأولاد، إلى جانب ما فيها من تجاوز للأنظمة، داعيةً إلى إصدار تشريعات تحمل جزاءات رادعة وملزمة لحماية الحقوق ومنع التجاوزات. وشدَّدت على أهمية التنسيق وتضافر الجهود بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية لوقف التنكيل بالزوجات والتهرُّب من الإنفاق على الزوجة والأولاد عبر المراوغة والهجر، مضيفةً أنَّ مشكلة هجر الزوجات مشكلة معاصرة ظهرت نتيجة ضعف تأثير الأحكام الدينية والمعايير الاجتماعية وانتشار الاتجاهات المادية والأنانية، لافتةً إلى أنَّ عملية الهجر والتعليق تُمثِّل سلوكاً انسحابياً قد ينجم عن التعارض بين المصالح الذاتية المُغرقة في الأنانية ومصالح الجماعة الأسرية. وأوضحت أنَّ الضرر الأكبر من هذا السلوك يظهر على الأولاد الذين لم يكتف والدهم بتجاهل حاجتهم إلى جو أُسري سليم قبل أو بعد الطلاق، بل إنَّه وضعهم في مواقف مُحرجة وضبابيَّة قد لا يتمكنون من تجاوزها إدراكياً ونفسياً؛ ممَّا قد يؤثر على إنجازهم وجميع علاقاتهم، ويحرمهم من فرصة الخروج من الأزمة الأسرية بأقل الأضرار. المرأة المهجورة تتقدم إلى المحكمة بطلب رفع الهجر أو النفقة أو فسخ النكاح دون رد عوض أسرة فاضلة وأكَّد "د.عبدالعزيز الشبرمي" -محام، ومستشار، وقاض سابق- على أنَّ الأصل في العلاقة بين الزوجين يجب أن تكون على جانب كبير ووثيق من المودة والرحمة؛ من أجل صناعة أسرة فاضلة وذرية طيبة صالحة، مضيفاً أنَّ المشكلات الزوجية والأسرية قد تجعل الترابط بين الزوجين يتراخى لينقطع أو يكاد من خلال الهجر بين الزوجين، مشيراً إلى أنَّ الهجر في الأصل وإن كان أسلوباً شرعاً أباحه الله، إلاَّ أنَّه شُرع لأسباب معينة ووقت محدد وهو مدة ثلاثة أيام. وبيَّن أنَّ الهجر شُرع في البيت بسبب نشوز الزوجة وخروجها عن طاعة الزوج بالمعروف، مضيفاً أنَّ هناك من يتعذرون بهذا الأسلوب ليستخدمه ضد زوجته وأولادها منه دون ذنب اقترفته، وبالتالي يستمر في هجره وغيبته الشهور والأعوام، موضحاً أنَّ الأمر يزداد سوءاً عندما يضيف إلى الهجر ترك النفقة على الزوجة والأبناء، إلى جانب رفض وسطاء الإصلاح والتمسُّك بعصمة النكاح إمعاناً بالضرر وإصراراً على الحبس والأسر، لتكون الزوجة معلقة فلا هي زوجة حقيقية ولا هي مُطلَّقة. إثبات الهجر وأضاف "د.الشبرمي" أنَّ النظام لم يُخصص للمهجورات شيئاً خاصاً، لكنَّه جعل لها مؤخراً عبر تعاميم وزارية، موضحاً أنَّ لها الحق بالتقدم للمحكمة المختصة بطلب إثبات الهجر لتقديمه لوزارة الشؤون الاجتماعية والحصول على مُخصَّصات مالية، لحين عودة الزوج وتكفُّله بالنفقة الواجبة عليه، مُقترحاً إنشاء صندوق النفقة، وهو أن تستحق الزوجة المهجورة نفقتها المُتطلبة من صندوق حكومي، ثمَّ يتم استيفاؤها من الزوج عبر ترتيبات محددة. وأشار إلى أنَّه يحق للمرأة المهجورة أن تلجأ لمحكمة الأحوال الشخصية أو المحكمة العامة إن لم يوجد ببلدها محكمة خاصة بالأحوال الشخصية، فتطلب رفع الهجر واستئناف العشرة والنفقة من قبل الزوج أو رفع الضرر عنها بطلب فسخ النكاح بدون رد عوض، مع أحقيّتها بإلزام الزوج بدفع النفقات الماضية ومدة العدة الشرعية؛ لكون الهجر عيباً بالزوج ألحق بها ضرراً بليغاً يحق لها رفعه بطلب الفسخ، مضيفاً أنَّ مدة الهجر يُرجع في تحديدها للعرف والعادة. فسخ النكاح ولفت "د.الشبرمي" إلى أنَّ الزوج الذي يخالف عُرف النَّاس حوله ويترك زوجته بدون سبب مُعتبر يُعدُّ هاجراً لها، مضيفاً أنَّه يترتَّب على ذلك الحق لها بطلب فسخ النكاح للضرر، وأمَّا ما لا يُعده النَّاس هجراً كسفر الزوج لطلب الرزق أو طلب العلم أو لهدف مؤقت مع تركه نفقة زوجته، فإنَّه في هذه الحالة لا يُعدُّ هاجراً لها، موضحاً أنَّه إذا ثبت للقاضي ارتكاب الزوج لهجر زوجته بإقراره أو عجزه عن إثبات البيِّنة على حضوره وصلته بها، وطلبت الزوجة رفع الضرر عنها ورفض الزوج منحها كامل حقوقها من المعاشرة والمؤانسة والنفقة، فإنَّ للقاضي الحكم بفسخ النكاح لعيب الهجر ورفع الضرر. فقدان المودة وأوضح "د.أحمد المحيميد" -مستشار قانوني، وعضو برنامج الأمان الأسري الوطني- أنَّ الهجر والتعليق بين الزوجين هو مفارقة احدهما للأخر بدون وجود طلاق أو فُرقة شرعية بينهما، مضيفاً أنَّ له عدة أسباب مختلفة، لعلَّ أبرزها فقدان المودة والرحمة بين الزوجين أو وجود اختلاف بينهما، مبيِّناً أنَّ الزوج قد يُسيء استخدامه ليكون عقاباً بدلاً من أن يكون للإصلاح والإرشاد والتوجيه، بل إنَّه ربَّما يصل لنشوز أحد الزوجين عن الآخر، وربَّما يكون سبباً للفرقة بينهما أو يصل للعضل. وأضاف أنَّ هجر الزوجة لبيت الزوجيَّة يُسمَّى نشوزاً، موضحاً أنَّ للرجل هنا الحق في طلب زوجته لبيت الطاعة بالحسنى أو تسريح بإحسان، مشيراً إلى أنَّ محاكم الأحوال الشخصية في المملكة تختص بنظر قضايا الهجر والتعليق بين الزوجين، وللمتضرر الحق في طلب رفع الضرر بالحسنى والمعروف، أو بالتفريق بينهما، لافتاً إلى أنَّه لا يوجد نظام ووقت محدد لرفع الدعوى الزوجية أو مدة محددة لانتهائها، بل إنَّ لكل قضية ظروفها وملابساتها. جريمة اجتماعية وأكَّد "د.خالد الحليبي" -مستشار أُسري- على أنَّ ترك المرأة في هذا الوضع جريمة اجتماعية تتنامى بين أيدينا، مضيفاً أنَّ الزوج هو المسؤول الأول عنها، موضحاً أنَّ الزوجة التي ترضى بهذا الوضع من أجل أولادها أو من أجل ضغط أهلها أحياناً لأيّ سبب، تكون سبباً في استمرار التوتر النفسي القاسي عليها، مُبيِّناً أنَّ الاستقرار النفسي مطلب شرعي ونفسي واجتماعي، ويجب السعي من جميع الأطراف إلى إنهاء هذا التوتر. وبيَّن أنَّ المُتغيّرات المعاصرة أحدثت تغييراً كبيراً في بُنية الأسرة، مضيفاً أنَّ الخصوصية الزائدة في وسائل التواصل تركت للشيطان فرصاً سانحة ليوقع بعض الرجال في مصايد بعض النساء، والعكس صحيح، بشكلٍ أدَّى إلى ازدياد الشكوك والاتهامات المتبادلة بالخيانة الزوجية، الأمر الذي نتج عنه توسُّع دوائر التجسُّسات الزوجية، لافتاً إلى أنَّ انشغال النفوس بمُلهيات العصر، إلى جانب اللهاث وراء الماديات، جعل فرص التسامح والتنازل محدودة. وأضاف أنَّ من أبرز الأسباب أيضاً عدم الإقدام على الاستشارة أو الاسترشاد في الوقت المناسب، إلى جانب تأجيل البحث عن حلول للمشكلات الطارئة وعدم فهم الطرف الآخر، وكذلك الصمت الزوجي الذي أصبح ظاهرة سيئة، إضافةً إلى عدم التحاور بطريقة صحيحة، مشيراً إلى أنَّ ذلك ترك آثاراً سلبية على العلاقات بين الزوجين، بشكلٍ أدَّى إلى أن ينفجر الوضع بعد ذلك، وتتكون مجموعة من الثارات بينهما؛ ممَّا جعل كلاً منهما شديداً على الآخر، وقاسياً في اختياراته بين الحلول المطروحة. ثقافة أُسريّة وأشار "د.الحليبي" إلى أنَّ الثقافة الأسرية ضعفت وتلاشت في بعض الأسر؛ ممَّا جعل الشقاق يحل محل الوفاق، والانتقام والتشفيّ مقام العفو والصفح والعشرة بالمعروف، فكما أن المرأة يجب عليها طاعة الزوج في المعروف، فيجب على الزوج ألا يظلمها، ولا يضربها بغير حق، فإن أخلت المرأة بواجباتها، فقد وجه المولى عز وجل الرجال بقوله :"واللاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ واهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنَّ"، لافتاً إلى أنَّ الهجر يكون في الفراش، وليس خارج الفراش، أي يعطيها ظهره فقط؛ ليُشعرها أنَّه ليس راضياً عن تصرُّف ما صدر منها. ولفت إلى أنَّ هناك ثلاثة خيارات تجعل الفَرَج في العلاقات الزوجية المتأزمة التي لم يعد لها أمل في الوفاق ممكناً، إذ إنَّ هناك الطلاق والفسخ والخلع، مضيفاً أنَّ التعليق من أسوأ الأحوال التي يكون لها أثر خطير في علاقة الزوجين يبعضهما؛ لأنَّه مشحون بالعواطف البغيضة، والقهر والتعسف، كما أنَّ الخصومات بين الأسرتين تزداد خلاله، إلى جانب وجود الغيبة وفساد ذات البين، مشيراً إلى أنَّ الأطفال والأولاد في أيّ سن يتضررون من ذلك ضرراً بالغاً، مبيِّناً أنَّ الأمر قد يزداد سوءاً بأن يتجرأ أحد الطرفين فيُشوِّه سمعة الطرف الآخر وينشر عيوبه. د. عبدالعزيز الشبرمي د. أحمد المحيميد د. خالد الحليبي