مثلما هي الحال في شعر الفصحى مما جرت به المداعبات والتساؤلات الودية التي تجري بين المودين والأصفياء وترقى إلى ما بين الأمير والتابع نجد في الشعر الشعبي من أدبيات هذا الموضوع كثيرًا، مما يؤخذ على حسن الظن أو الجدل الذي تلعب البلاغة فيه دورًا هامًا يشحذ الذهن ويدفع للتفكير. ومن مداعبات الأدباء والعلماء ما نهضت به مجالس الخلفاء والأمراء وكتب المقامات والمناظرات، مما تؤخذ أطرافه من السياق الأدبي وقد ورد في الجزء الثاني من كتاب" الأزهار النادية من أشعار البادية" للشيخ محمد سيعد كمال رحمه الله شيء من ذلك كثير. ومنه قصيدة للشاعر البشيتي الهذلي الذي طرح سؤالاً شعريًا يستثير به الشعراء حول موضوع القُبلة هل تجرح الصيام، وهو يدرك متى تجوز ومتى تحرم، ولكن الفكرة تعبير عن سنن الكتاب والشعراء لتفتيق الفكر وإشغال الذهن بما لم يكن متوقعًا، وفيه من الإمتاع ما يدركه الشعراء والأدباء. وقد طرح البشيتي سؤاله مستوفيًا لبواعثه وحيثياته ومشكلته، وعليكم الحكم في منهج الشاعر الأدبي، أما أحد الردود الواردة في الكتاب نفسه فكان للشاعر عبدالله الكلفوت من أشراف وادي المضيق المجاور لمكة المكرمة، يقول البشيتي: عندما سرّج حجاجي للمنام هب من تلقا ربا خلِّي نسيم ضو طيفه قد جلا حبك الظلام مثل بدر التام في برجه مقيم سالم النقصان في ضّوه تمام صانه الله عن نظر حاسد لئيم ثم يستعرض معايير الجمال التي يتسم بها هذا الخل: قوس عينه والهدب أقوى سهام عاذلي لو شافه امساه السقيم سهل خده مشربًا من ورد شام فيه خال اسود وأنفه مستقيم ساع ما ألفى خياله بابتسام مسفرًا عن ثغر له دايم لثيم مثل خاتم تبر شغله بالتمام مثله ما صيغ والصايغ حكيم حوله الياقوت مع ريح البشام جوفه السلسال واللولو النظيم والنواهد مثل تفاح الوحام أو كما رمان والا ّطلع ليم ضامر الأحشاء نحيل الخصر حام حاميًا نفسه عن الكل الوخيم يا لبيب أفهم وقصّر في الكلام شمعدان الساق باقي يا حشيم والقدم سعد العشيرة والأنام قد نشا في السعد والمعطي كريم إن طلبت الوصل ليلة غاب عام والجفا ما حل في الشرع القديم هذه الصفات الجميلة تغري الخيال بالحضور والشرود، والنفس بالأماني عند ما يعز تحقيق الآمال لأسباب قاهرة. محمد سيعد كمال أما السؤال فيختصره الشاعر في قوله: يا إمام الشرع أسالك بالذمام افتنا بالحق والنهج القويم من ضناه الشوق وابراه السقام زاد به شوقه ومعشوقه غشيم قبلة المبسم ضحى تجرح صيام؟ قول حكم الحق لك رب خصيم هذا الغزل لا شك في الزوجة، هي من يستطيع أن يبلغ مناه منها، ولكن المانع هو الصوم، لذا يلتمس الشاعر حلاً يمكنه من ذلك. والمسألة أدبية ربما كان السؤال مدعاة نشوئها، والوصف مبرر حدوثها. أما رد الشاعر عبدالله الكلفوت فكان: يا الله أنا طالبك حسن الختام أهدنا للرشد يا رب كريم بعد استفتاي أوصله الذمام دلّني للسمع يا رب عليم من تبعنا في الشريعة ما يضام من قصدها ما يعوّد مستضام ما يفاوت حكمنا غير اللئام واحمد الله ما يوافقنا لئيم تم يستدعي ذاكرة الشاعر البشيتي ويبرر مدعاة سؤاله مضيفًا أسباب أخرى، رادًا السبب للجميلات المستبدات كما يقول عمر بن أبي ربيعة: واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد الكلفوت لا يلوم البشيتي ، وإنما يرد اللوم للمعترضات سبيله: لا رعى الله من يحطّن الوشام إن أرادن قتل مسلم مستقيم شرّعن له بالخواتم والزمام والرقم في صفحة الخد الجسيم ولّعوها بعد قايم بانتظام ثم لدوا فيه بالطرف السقيم إن قِتِلْ قالوا لعله للرحام وأن غشي خلوه في نار الجحيم ثم يطرح الجواب: جايز المنظور عندي يا غلام كل ما يحرم ولو غير الحريم خُصْ من جسمه نحل وايّا العظام واشتعل جوفه كما عبدالرحيم يوم تِيِّم في هوى خير الأنام أو كما معشوق ليلى أو تميم إن خِشِي المضطر أو يغمي وسام حل أن يأكل ولو مال اليتيم ما وصل من قدم الفتوى أثام الدوا مشروع للجسم العديم جايز القبلة ولو تحت اللثام إن سلم من همزه إبليس الرجيم نعم لقد اعتبره في حالة المضطر غير الباغي، والقضية لا تخرج عن مدار الدعابة، والأسماء التي أشار إليها هي عبدالرحيم البرعي، ليست تبرئة لي مما بي ولكن للايضاح، ومعشوق ليلى قيس وتميم من عشاق العرب, ثم يضيف الشاعر من باب الاطمئنان: خذ جوابي نص عن قول الإمام عند ابي يوسف وفتوى حا وميم والمذاهب كل ابوها بالتمام قد أباحت للمريض المستقيم وإن بغيت اعطيك للفتوى علام خذ كلام الله لا تسأل عليم هذا فيما بين شاعر وشاعر، ولكن ماذا عن ما بين تابع وأمير؟ من المعروف أن العرب يحبون الشعر زينة مجالسهم ومنتدياتهم، ووعاء تأريخهم وتطلعاتهم، لذا عمرت مجالس السادة بالشعر، وأشعلوا الشعر بالعطايا وكسب مودة الشعراء واحتوائهم، فما ورد في مرجعنا السابق حوار جرى بين الشاعر سعد الجودي والشريف زيد بن فواز وكلاهما من أرومة واحدة، وكان للشاعر عادة سنوية لدى الشريف زيد فتأخر صرفها واستبطأها الشاعر فقال من أبيات قدمها للشريف: سلام نبغي العادة المعلومة أبطت علي ووقتها قد زلِّ يا سيدي جرباننا ملزومة افتكّني، راعي الخلاص ارسل لي فأجابه الشريف الذي طاب له أن يجاري الشاعر، وفي ذلك متعة لا يدركها من لم يتذوق شيئًا منها: تبغى العطايا كل يوم بيومه والجَلْب عندك في ام خبز مفلِّى كم واحدٍ نطير في بلعومه إمّا صبر والاّ لزوم يخلٍّي فاستخدم الشاعر ذكاء الشعراء فقال: طبّحت لي في صخرة صلصومة يمطر عليها الغر ما تبتلِّ إن جالها الشباح عاف علومه ما تنبت إلاّ من ربيع متلّى وكأني بالشريف يبتسم حين يرد قائلا: ما كل بيضا لونها مشحومة البيض حتى في صليل الصل وابشر بها يا أبو فهد ملمومة والخير مقبل والخبيث مولي الكلام الأدبي سلاح الشاعر، ومتعة المتلقي، وذاكرة الحياة الأنسانية . و الشاعر المبدع هو من يمتلك القلوب بذائقتة الشعرية و تحسسة باحداث الزمان و احوال البشر و استعارة ما يلائم مقالة من تشكيلات الطبيعة و مفردات الكلام.