يقول جبران خليل جبران (لي من نفسي صديق يعزيني إذا ما اشتدت خطوب الأيام، ويواسيني عندما تلم مصائب الحياة، ومن لم يكن صديقاً لنفسه، كان عدواً للناس ومن لم ير مؤنساً من ذاته، مات قانطاً، لأن الحياة تنبثق من داخل الإنسان ولم تجئ مما يحيط به). وهو بذلك وكما نعرف مساره يفتح حواراً غير مشروط مع النفس والتي وإن قارنت مكتسباتك منه بعد ذلك ستجد حصاداً يستحق ذلك الثمن الباهظ الذي دفعته لمعرفتها. في كثير من الأحيان وعندما تجتاحك العاصفة، وتصبح حسابات الحياة أكثر تعقيداً، تركض دون أن تعرف إلى أين؟ هل إلى الآخر، والذي وإن اشترك معك في همومك، لن يتمكن من ملامسة ما هو أعمق في دواخلك. وإن تصورت أنه قد نجح في احتواءئك، فستتحول إلى مدين مستديم له يلزمك عمرك للسداد. مع الآخر وإن كسبت الكثير من النقاط إلا أنك سرعان ما سوف تخسرها. ولكن مع النفس ورغم صعوبة قراءاتها، والوصول إلى أعماقها إلا أنك في مصاعب ومتاهات وصولك قد تكتشف الضفة الأخرى منك والتي لا تعرفها. يقول أحد الفلاسفة (تجرأ أن تكون نفسك) هو يربطها بالجرأة وهذا يعني أنه من الصعب أن تصل إلى نفسك أنت، تعرفها، ترجح كفتها، تلتفت إلى ساعتها، لا تدع الوقت يسرقها منك، وأقصد بالوقت انشغالك المطلق عنها بالآخرين. في اللهجة العامية وببساطة نجد أحدهم يقول: (مع متطلبات الحياة اليومية وازدحامها، لا أجد الوقت الكافي لأجلس مع نفسي) أو اتحدث معها، أو أمنحها وقتها، أو استسلم للحظة صفاء كافية تقتلعني من جذور المعاناة اليومية ومن غطرسة الهروب المتصلة، ومن تلك الدوامة التي تسحبنا معها حتى نفقد القدرة على الاحتمال. صديقة لي تشتكي دائماً وهي الراكضة في مسار الحياة والعمل والالتزامات الاجتماعية من كارثة كما تسميها عدم جلوسها مع نفسها، تقول لي الوقت الذي احتاجه للجلوس مع نفسي لم أعد أجده هنا، أسافر بعيداً للامساك به. صديقتي تواجه نفسها بنفسها وتمنحها احساس عدم تصور الحياة من دونها، لكن هناك آخرون لا يواجهون هذا الخيار، بل قد يستبيحون أي لحظة التقاء معها لتصدير وقتها إلى الآخرين، واختراع زمن لهم. أغلب الظن ان الزمن اعتاد أن يستلب منا أشياء كثيرة، اعتاد أن يتحول بعد أن يحضر، اعتاد أن يجمع أوراقه بعد أن نثرها دون ضمانات كافية لاستيعاب حلها، أو ترك الفرصة للسؤال لماذا عاد وجمعها؟ في كل ذلك عليك أن تنحني أمام حاضرك، وتمعن النظر إلى مستقبلك وتسعد بشروق الشمس، وتستقبل الليل بنفس الصفحة الأولى التي لابد أن تكتب بها، وباستسلام أحياناً لكل المعطيات التي قد تستيقظ وتجدها أمراً واقعاً. ولكن كل تلك الأفخاخ اليومية غير المتوقعة، والتصادمات التي قد تفتح حقيبتك، وتجدها دون استعداد، وليس أمامك خيار لتغيير خط سيرك هل تدفعك لضبط ساعتك على الآخر، والتسلل إليه ليحررك من أوجاعك، أم أنك ملزم بأن تدس أحزانك داخلك، هناك داخل نفسك؟ معهما تخيلت أنه بعيد، بعيد ومن الصعب ملامسته، ولكن مع قليل من الاستعداد والصبر قد تجده، وتدخل إليه. ستجد نفسك عندما تبحث عنها، سترافقك كماء الحياة، وسترسم لك الطريق، وستشعر بدفء اللحظة، وسوف تحتفل معها بها، بعد أن تباعدت عنها، من ضفة داخلها إلى أخرى ستستمتع بالحياة، لن تلوم الآخر على خطأ ارتكبه في حقك، لأنك تشعر بإحساس متفرد، تصالحي، يضيّق المسافات بينك وبين الألم، ويفتح لك أبواب الحياة، وتجد من خلاله، قلبك، وعقلك، وسكينتك، وجميع الحلفاء الذين يدينون لك بالولاء وأنت لم تعرف ولم تتوقف!!