حين تتغلغل الثقة بالذات في النفس الإنسانية يستحيل لأعتى العوائق أن تتصدى لها، حتى وإن اقتلعت الظروف ما اقتلعت، تبقى «الأنا» المغروسة بالثقة واقفة في وجه أية عاصفة، كي تصنع من صاحبها شيئاً مذكوراً. هند عبدالهادي سعيد لم يمنعها حرمانها من وجود الأب والأم من أن تحيا كما تريد، لم يحبط عزمها أن فتحت عينيها لتجد نفسها إحدى بنات دار التربية الاجتماعية، بل على العكس تماماً، لم تكن تلك الظروف سوى حطب يشعل وقود الطموح داخلها، الذي يغذي رغبتها في أن تعيش حياة كما تريد، مليئة بالنجاح. ها هي اليوم بعينين ضاحكتين تهتف «ها أنا ذا»، مؤكدة ل«الحياة» أن طموحها لا ينتهي، فهند تعمل في مستشفى «فيصل التخصصي» بعد أن تخرجت من الجامعة بشهادة إدارة عامة، ولم تكتفِ من العلم، إذ لا تزال تدرس مساء اللغة الإنكليزية في أحد المعاهد. تقول: «أنهيت خمسة مستويات في اللغة الإنكليزية حتى الآن بفضل من الله ودعم الوزارة لي، كل شيء متوافر لنا والطريق ممهد لنكون في هذه الحياة شيئاً مذكوراً، بل من يدقق يجد أننا أحسن بكثير من أناس غيرنا بالكاد تتوافر لديهم ضرورات الحياة الكريمة على رغم أنهم يعيشون مع أسرهم». وتقضي هند يومها ب«التركيز على هدفها، المتمثل بالنجاح»، وتضيف: «لا يتعبني في الحياة سوى تمادي الناس بالشفقة على اليتيم، فحين يعلم أحدهم أن هذا الشخص يتيم تجد مبالغة في التعاطف، ونظرات حزينة مشفقة، لكنني أرفض ذلك، فأنا كأي شخص عادي، يجب أن يتعامل معي وفق ما حققته من نجاح». شاركت هند في ورقة عمل في البحرين موضوعها: «كيف تعوضين غياب الأبوين؟»، تقول عنها: «طرحت ما رأيته وعشته، فحين كنت أدرس في الكلية أسمع من صديقاتي من تقول إن أباها عمل لها كذا، وأخرى تقول أمي جلبت لي كذا، وثالثة تخبرنا بما فعلت مع أسرتها حين سافروا إلى فرنسا، ومنهن من كانت تقول أهلي يريدون مني كذا، في حين وجدت أني دائماً ما أتكلم عن نفسي بعكسهم تماماً، فأنا عملت كذا وأنا درست في الدورة الفلانية، وأنا رتبت غرفتي، وجدت أني كثيراً ما أتكلم بصيغة الأنا، فتحقيق ذاتي أغناني عن وجود أبي وأمي». ولا تزال صاحبة الطموح الكبير تحلم بأن تملك منزلها الخاص من مجهودها الشخصي، وأن ينجح مشروعها الذي يكاد ينطلق، «أنا الآن بصدد عمل مشروع صغير جمعت له مبلغا مالياً، إذ تعاقدت مع قاعات الأفراح على أن أمدهم بالحلويات والكعك حتى أستطيع أن أطلق مشروعي الثاني المتمثل بمقهى صغير». وتبقى أمنية واحدة لهند، فهي تتمنى أن تكمل الدولة جميلها «نتمنى أن تمنحنا الحكومة أرضاً أو منزلاً باسمنا، ينفعنا إذا صارت في الخطوب خطوب». وكان ل«الحياة» حديث مع مجموعة من فتيات دار التربية الاجتماعية في جدة، يتضح بعد الجلوس معهن والاطلاع على أسلوب الحياة داخل الدار والإمكانات الموضوعة لرعايتهن أنهن سعيدات، لا ينقصهن شيء، إلا أن شيئاً واحداً فقط يزعجهن، تقول إحداهن (فضلت عدم ذكر اسمها): «حين نريد الخروج ننتظر حتى تتفرغ لنا إحدى المراقبات لتذهب معنا إلى الصيدلية أو لأي مكان، وحين يصدر منا خطأ نُعاقب بالمنع من الخروج». وتضيف: «إذا رغبت إحدى صديقاتي زيارتي في الدار، يتم إيقافها أمام البوابة وأخذ هويتها والتحقق منها، بل أحياناً يتم منعها من الدخول لتعود من حيث جاءت، فأجد نفسي محرجة، وكأنني في سجن» وأكدت بعض القاطنات في دار رعاية الأيتام أنه من النادر ما تتفرغ إحدى الاختصاصيات لسماع همومهن، فأحياناً يحتجن إلى الحديث ويرغبن في وجود من يسمعهن «لا نريد أكثر من ذلك، نحتاج إلى من يأتي ليسألنا حينما نصمت ماذا بكن؟».