من يعد إلى المجلات الأدبية العربية التي كانت تصدر في منتصف القرن الماضي، مثل "الآداب" و"شعر" و"الكاتب المصري" يجد أن ترجمة نماذج من الشعر الأجنبي إلى العربية أخذت حيزاً واسعاً في هذه المجلات، بل من هذه المجلات الأدبية ما عد أن هذه الترجمات تدخل في باب المهمات أو الرسالات التي يتعين أداؤها على أساس أنها وسيلة من وسائل ترقية الشعر العربي وتحديثه، ومن ينظر الآن في جودة ما ترجم من شعر في تلك الفترة، سواء على صعيد الترجمة بحد ذاتها، أو على صعيد النصوص التي اختيرت، لا يظفر بنماذج كثيرة جيدة، فالترجمات هذه كثيراً ما اضطلع بها أدباء أو مثقفون غير متمكنين من اللغتين المنقول منها أو المنقول إليها أو من إحداهما في الأعم الأغلب، وكثيراً ما أتت النتائج عكس ما كان متوقعاً، لا على صعيد نقل بعض المفردات ومدى أمانة النقل للأصل، ولا على صعيد نقل النصوص الشعرية بمجملها، إذ كانت الترجمة إلى العربية غير أمينة بوجه عام، فجرى نقل هذه النصوص نقلاً شوه الأصل وأساء إليه. على أن هذا لا يعني أن ترجمة الشعر الأجنبي كانت كلها على هذه الصورة، فقد توافر - أحياناً - مترجمون جيدون لا غبار على ترجماتهم، ولكن الأعم الأغلب لم يكن على هذه الصورة. ولا شك أن هذه الترجمات سواء كانت جيدة أو غير جيدة، أدت دوراً كبيراً في اطلاع الشاعر العربي على نماذج من الشعر الذي يكتبه الشعراء في البلدان الأجنبية، وبخاصة في أوروبا، أو في أمريكا. وهناك من الشعراء العرب من نظم شعراً تحت تأثير هذه الترجمات، منهم بدر شاكر السياب الذي بهره الشعر الذي قرأه مترجماً، كحديث سيتويل أو ت. س اليوت. ولأن السياب مع أنه تخرج في قسم اللغة الإنكليزية بدار المعلمين العالية في بغداد لم يكن يجيد الانكليزية على النحو المطلوب، فقد كان يعتمد على ترجمات الشعر الأجنبي التي تغنيه عن العودة إلى القواميس والمعاجم للتفتيش عن معنى هذه المفردة أو تلك في لغتها الأصلية. على أن هذه الترجمات الشعرية من الأجنبية إلى العربية إذا كانت قد شكلت زاداً ثقافياً لكثير من الشعراء الذين كان حظهم قليلاً أو منعدماً من اللغة والثقافة الأجنبية، إلاّ أنها لم تكن تخلو من ضرر، فقد شبه لكثيرين من الشعراء في تلك الفترة وبخاصة الشعراء الشباب أن ما يقرؤونه من هذا الشعر الأجنبي باللغة العربية إنما يمثل نماذج راقية منه، أو أن هذه النماذج هي صورة الشعر الأجنبي؛ لأن الشعر الأجنبي هو على هذه الصورة معنى ومبنى فلا بأس باحتذائه أو بتقليده؛ لأن الشعر العربي بنظرهم متخلف ومازال يكتب حسب طريقة الخليل بن أحمد. فلماذا لا نكتب شعراً حراً كهذا الشعر الأجنبي المتحرر من الوزن والقافية والمتحرر أحياناً من المعنى نفسه، وهو ما يحررنا بدوره من قيد شعري عربي قديم مرتبط بتعريف الشعر يقول: "إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى". لقد شاع في الخمسينيات من القرن الماضي قول مشهور ليوسف الخال صاحب مجلة "شعر" هو أنه لا لزوم في الشعر للكلام الذي يدل على معنى إذ يمكن أن يكون هذا الكلام الشعري من نوع الرسم التجريدي الذي لا ينقل الواقع الحسي الملموس، بل يتيح لكل راء أن يفهه أو يفسره على هواه. كذلك القصيدة الحديثة فلا حاجة لها للمنطق بتاتاً، لا للمنطق الشعري التقليدي ولا لأي منطق آخر. من ناحية الشكل لا حاجة للوزن ولا للقافية على الاطلاق، ومن حيث المعنى لا حاجة أيضاً له، إذ إن كل ما هو مطلوب في القصيدة الحديثة أن تدع قارئها في حالة دفء وتأمل وتدبر ذاتي لما يقرأ. ونتيجة لمثل هذا التنظير السهل الذي شاع، الذي كانت تكاليفه على الشاعر وعلى القارئ متدنية جداً، جرى النظر إلى هذه الترجمات العربية للشعر الأجنبي على أنها قدوة يقتدى بها، فينظم الشعر العربي الحديث أو الجديد على أساسها. ظن كثيرون من الشعراء العرب أن الشعراء الأجانب قد تحرروا من الوزن والقافية، في حين أن الأمر لم يكن دائماً على هذه الصورة. فكثير من الشعر الأجنبي والحديث منه بخاصة، موزون ومقفى، ولكن نقله إلى لغة أجنبية لا يتم بالطبع على هذه الصورة، إذ ينقل بأسلوب النثر، وهذا طبيعي. ورأى شعراؤنا أن معاني هذا الشعر الأجنبي خابية الضوء، أو غامضة غموضاً داكناً، فعزوا ذلك إلى طبيعة بنيته، أو إلى الأصل الذي نظم فيه، في حين أن الترجمة كثيراً ما تكون رديئة رداءة فاحشة، فلا تنقل بدقة الأصل الأجنبي فتغمضه وتشوهه. وهكذا أساءت هذه الترجمات، أو القسم الأعظم منها، أيما إساءة إلى الشعر العربي الحديث، وكذلك إلى الشاعر العربي. ولم يكن ذلك ليحصل لو لم يكن هناك تقصير من المترجم في فهم الأصل الشعري الناتج عن عوزه الثقافي، وهذا يعني أن حدود ثقافة الناقل هي التي تجعل النص المنقول مقروءاً أو غير مقروء، أي مفهوماً أو غير مفهوم. كلنا يذكر مقولة الجاحظ المشهورة حول ترجمة الشعر، فالشعر عنده "لا يجوز عليه النقل، وإلا ذهب حسنه وسقط موضع التعجب فيه". ولكن إذا عصينا مقولة الجاحظ هذه، فكيف يستطيع الناقل أن ينقل الشعر من الأجنبية إلى العربية، ويجتهد في ألا يذهب بحسنه، وألا يسقط موضع التعجب فيه؟. يبدو أن أهم المشكلات التي تعترض طريق الناقل تقع في باب المهاد التاريخي والمهاد الثقافي ومسائل شكل النص وبنيته، لا يطلب من الناقل أن ينقل القصيدة الانكليزية، أو الأجنبية عموماً، ليجعل منها قصيدة عربية ذات وزن وقافية فذلك عبث، بل إن كل ما يطلب منه هو فهم النص الأجنبي فهماً صحيحاً ونقله بالتالي نقلاً أميناً كما يتطلب فعل الترجمة. أما تقصير الناقل في فهم النص الشعري بسبب من فقره الثقافي، فلا ينتج سوى ضبابية في العبارة المنقولة، عندها يصبح النص المنقول غير مفهوم لا يؤدي غرضه في إغناء ثقافة الشاعر أو القارئ العربي. وتقصير الناقل في هذا المجال ينعكس فيما ينقله من نصوص، وقد يكون خطيراً. هناك أستاذ أدب إنجليزي درس في انكلترا عدة سنوات ترجم عنوان قصيدة لإليوت ASH WEDNESDAY بعبارة «رماد الأربعاء» والصحيح «أربعاء الرماد» وهو يوم من أيام الكنيسة عند النصارى، والمترجم نصراني. والفرق هنا فرق قاتل. ثم يترجم نظير له اسم طائر السنونو الذي يخاطبه الشاعر فيجعل الاسم فعل أمر ليصير: «إبلع! إبلع»، لأن السنونو «SWALLOWS» قد انقلبت في ذهن المترجم من اسم منادى إلى فعل أمر. ويترجم آخر كلمة (HILL) على أنها «تل» رغم أنها تشير إلى انحناء الشارع صعوداً ولا تشير إلى «تل» وسط مدينة لندن قرب حي المال والأعمال. والأمثلة على ذلك كثيرة. أين مسؤولية الناقل أمام القارئ العربي الذي وضع ثقته في الناقل خصوصاً إذا كان ممن درسوا في جامعات أجنبية؟. والواقع أن الترجمة الجادة هي أكثر ما افتقده القارئ العربي، وبخاصة الشاعر العربي الذي تعامل بورع وقداسة مع هذه الترجمات، فقلدها عن ظن منه أنها أمينة للأصل وخاصة بشعراء كبار في العالم الحديث. ولكن على افتراض أن هذه النصوص الشعرية الأجنبية منقولة نقلاً جيداً إلى العربية، فهل يكفي تقليدها أو النسج على منوالها لصناعة شاعر عربي وشعر عربي؟. طبعاً الاطلاع على الشعر الأجنبي مفيد إفادة كبيرة للشاعر العربي، ومن الأفضل لهذا الشاعر العربي إذا كان يعرف لغة أجنبية أن يطلع على هذا الشعر بلغته الأصلية؛ ليستأنس به وليحاول الاستفادة من بعض تقنياته إذا وجد في ذلك فلاحاً لقصيدته. ولكن الواقع أن الشاعر الحديث مطالب اليوم بالاطلاع لا على الشعر الأجنبي، هنا وهناك، وإنما بالاطلاع على الثقافة الأجنبية بعامة وما يمور فيها من تيارات مختلفة. وهو مطالب بالاطلاع على الفنون والآداب والعلوم، أي إنه مطالب بموسوعية شاملة تتيح له الغوص والكشف وسبر أعماق هذا العصر وابداعاته كي يكون لا مجرد شاعر يطارد الأوزان والقوافي، بل قائداً وراثياً ومعلماً أيضاً. هذه كانت مهمة الشاعر العظيم عبر العصور، وهذه هي مهمته في عصرنا الحالي الذي يشهد من التطورات والانقلابات ما لم يشهده عصر من العصور. لقد كان الاهتمام الزائد عن الحد بترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية اهتماماً في غير محله، لابد للشاعر من أن يطلع على الشعر الأجنبي في مظانه الأصلية لا يقلده، بل ليستأنس به ويفيد ربما من بعض تقنياته. ولكن ينبغي ألا يغيب عن باله أن الشاعر لا تصنعه مثل هذه الترجمات، بل تصنعه عوامل كثيرة منها شاعريته وثقافته وتراثه. يطلع الشاعر من تراثه وبيئته وثقافته لا من تراث الآخرين وبيئتهم وثقافتهم. ولا ننسى أن هذه الترجمات التي نتحدث عنها كثيراً ما شكلت عائقاً أمام الشعر، في حين ظنها بعض الشعراء أقرب المسالك إليه.