من النقد الذي وجهه خصوم رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان إليه غداة تأليفه لحكومته الحالية، انه ليس نائباً في البرلمان، وان الذي اختاره لرئاسة الحكومة هو رئيس الجمهورية وليس الشعب. ولم يصمد هذا النقد بالطبع لأن دومينيك دوفيلبان وان اختاره الرئيس الفرنسي جاك شيراك، حاز لاحقاً على ثقة المجلس النيابي الذي يمثل الشعب. ولكن عندما يقرأ المرء الأعمال الشعرية التي صدرت له في فرنسا منذ أكثر من ربع قرن إلى اليوم، يتأكد ل أن للشعر والأدب دورهما في مثل هذا الاختيار. فدو فيلبان شاعر كبير بالمقاييس الفرنسية السائدة الآن. ولعل لهذا الجانب في شخصيته أثره في اختيار شيراك له، أولاً وزيراً للخارجية ثم للداخلية على التوالي، وثانياً رئيساً للحكومة. ويمكن للقارئ العربي أن يتعرف إلى جوانب من شخصيته الأدبية عبر كتابين شعريين صدرا له مؤخراً، الأول في الدارالبيضاء بالمغرب، عن بيت الشعر، بعنوان «استعجال الشعر يليه قصائد مختارة»، والثاني في بيروت عن دار النهار، بعنوان «الأرض الملتهبة». «استعجال الشعر» عربه الشاعر المغربي محمد بنيس، في حين عرب «الأرض الملتهبة» الشاعر السوري ادونيس. ومع ان ترجمة الشعر تدخل عادة في باب الجور، أو التعسف لأن المترجم لا يمكنه أن ينقل سوى الفتات من النص الأصلي وخصائصه وتوهجاته، إلا انه لا مناص من اللجوء إليها. فهي على الأقل، تعطي فكرة عن النص الأصلي الذي من أجل ادراك معانيه، وخصائصه على النحو الأوفى لابد من قراءته باللغة التي وضع فيها. على اننا قبل ان نعرض لنصوص دوفيلبان الشعرية، يحسن إيراد بعض آرائه في الشعر. وفي هذه الآراء ما يؤكد لنا أن قسماً كبيراً من التنظير الشعري الذي دأب أدونيس، وغير أدونيس على بثه في الدوريات والكتب، إنما هو في جوهره كما في شكله، تنظير فرنسي. يقدم الشعر بنظر دوفيلبان، يده المعينة بقدرته على التجاوز وخرق الخطاب المزدوج لنور الوميض اللامع وصدى التوافقات. انه يرفض المنغلق، يصرخ ويحفر، ويحاول بفضل الكلمات إعادة خلق العالم. ثم يلي ذلك، والكلام لدوفيلبان، تحدي اللغة التي تمنح أدوات عجيبة لفتح غطاء العالم. لكنه يضحى من اللازم معرفة الكيفية التي يفك بها طلاء هذه الأدوات حتى تصير أدوات عرائسية، بعيداً عن الكلمات المألوفة، المزيفة بالأكاذيب وتجارة اليومي، والشعر قبل كل شيء إلهام وحيوية: يتأسس الشعراء في المنفى، مانحاً الشاعر مرتبة تجعل منه سيد الأشياء الأكثر خفاء.. ولأنه يقبل المجازفة بشكل دائم ومتجدد فهو لا يمكنه أن يحيا سوى على الهوامش والتخوم، في ما قبل القصيدة. والشعر يستطيع، بنفسه القوي، أن يحمل العبء الإنساني الثقيل، عبء الأحياء والأموات، عبء المسرات والآلام. والشعر يلزمه أخيراً أن يتحمل طبيعة نزعته التي تجمع ما بين الكوني والتجربة الشخصية. ومن أجل هذه المهمة، يخول الشعر الشاعر حق الابن البكر: انه وريث سلسلة طويلة.. وهو أيضاً في مقدمة نسب طويل: لا شيء يفرضه في بحثه عن الحقيقة. انه مهموم في محترف ابداعه، منكب على حقيقة حية، حقيقة متنبئة، لا نبوية، تفتح وتستصلح وتفك رموز السبل، فالشعر في حال انشغال دائم، حال استكشاف فضاء جديد للحرية، للأخوة حتى يستطيع الإنسان وهو في الطريق المرسوم، ان ينتصب واقفاً في مواجهة الرياح. قد لا يكون المنظرون العرب للشعر ينقلون مثل هذا الكلام لدوفيلبان عن الشعر نقلاً حرفيا، ولكنهم يستوحون مذاهب الفرنسيين في نظرتهم إلى الشعر، وفي الشعر نفسه. ودوفيلبان ليس في الواقع سوى شاعر فرنسي في عداد شعراء فرنسيين كثيرين لديهم ما يمكن اعتباره خطاً أو توجهاً شعرياً حداثياً. وهناك فرنسيون آخرون ممن اعتادوا على الشعر الفرنسي في عصوره الذهبية وصولاً إلى رحلة لوتريامون وارغون وبروتون، لا يعترفون لا بنظريات دوفيلبان حول الشعر ولا بشعره ذاته، ويرون في هذه الموجة التنظيرية والشعرية الحديثة التي منها دوفيلبان ما يراه مثقفون عرب في شعر ادونيس أو في شعر أي أدونيس آخر. ولكن هؤلاء المثقفين الفرنسيين والعرب يقرأون هذا التنظير وهذا الشعر الحديث ويتركون الحكم عليها للزمن، خوفا على الأرجح من أن يتهمهم أحد بالتخلف. كثيرا ما ينعت النقاد والباحثون ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى بأنها خيانة. يقول هؤلاء ان القصيدة في حد ذاتها عملية ابحار ضمن اللغة التي يكتب بها الشاعر الشعر. فهل تتحمل هذه القصيدة عملية إبحار آخر من لغة إلى لغة؟ ويشك هؤلاء في عملية الابحار الثانية التي لا مناص منها إذا ما رغب القارئ بالاطلاع على الشعر المكتوب في البلدان الأخرى. فعندها لابد من اقتراف هذه الخيانة، ولكن لابد ايضاً من احاطتها بشروط كثيرة منها ان يكون الناقل شاعراً. فالشاعر أقدر على نقل الشعر من غير الشاعر. وقد تحقق لدومينيك دوفيلبان هذا الشرط. فالذي نقل مجموعتيه الشعريتين إلى العربية شاعران هما محمد بنيس وأدونيس. ولكننا سنرى عند قراءة هاتين المجموعتين، ان ادونيس ذكر في «إشارة» مهّد بها للترجمة، انه أجرى بالاتفاق مع الشاعر تعديلات طفيفة في الصياغة والتعبير، «من أجل تطابق شعري أكثر غنى بين لغة الأصل ولغة النقل. والغاية هي تحقيق الشعرية في الترجمة على الوجه الأكثر افصاحاً وجمالاً، وفقاً لتجربتي الخاصة في ترجمة الشعر ولخبرتي الحية: ايثار ارتكاب الأخطاء الحرفية حيث تنتفي الحال، واجتناب الأخطاء الشعرية في أية حال». أما محمد بنيس فلم يضمن ترجمته أية «إشارة» من هذا النوع، ولكنه نشر نصوص دوفيلبان بالفرنسية إلى جانب ترجمته لها. على ان كل ذلك لم يؤمن للشاعر الفرنسي الذي أصبح فيما بعد رئيساً لوزراء فرنسا، الحماية التي تتيح له الوصول السليم أو السوي إلى قارئه العربي. لقد نُقلت نصوصه إلى العربية، كما نقلت نصوص شعراء أجانب كثيرين إلى لغتنا يمر بها القارئ العربي مرور الكرام في أغلب الأحيان، أو يتوقف عندها قليلاً على سبيل الفضول حيناً آخر، فإذا قرأها عرف سر هذا «الوباء» الذي انتقل إلى شعرنا العربي. ذلك ان شعراء عرباً كثيرين يحتذون هذه النصوص الأجنبية المنقولة إلى العربية ويكتبون على غرارها، عن ظن منهم ان احتذاءها كفيل بأن يحقق المعجزة، أي بات يحوّلهم من ناثرين إلى شعراء. ولكن أيا كان الأمر، كان شعر دوفيلبان الذي نقله بنيس وادونيس إلى العربية، ظل شعراً أجنبياً منقولاً إلى العربية. قد يعبر هذا الشعر، في لغته الأصلية، عن حساسية ما، قد يلبي ذائقة ما، قد يكون شعراً تستوجبه ظروف الشعر ودواعيه وأشكاله في بلده الأصلي، ولكنه شعر غريب الدار، في دارنا على الأقل، إن لم يكن غريباً في كل دار أخرى غير داره. من ترجمة محمد بنيس ننقل هذا المقطع: «القوافل الوفية لابتسامة الحجر تفتت المسجة. يصعد الحذاة المراقبون سفوح العمر، وينشئون أصابع الحلم، حتى يناموا نومات الصحارى، وينسى كل واحد من هذا البلد الذي تحوم فيه ظلال تحت القشرة المجزّعة». ومن ترجمة ادونيس ننقل قصيدتين صغيرتين: في الأولى، وعنوانها «رفيق»، يقول دوفيلبان: «نحوك يا ناسي الأسوار القديمة، سنمضي لزراعة الزمن. الأعمال كلها مدجأة على تخوم الولادات. سوف تنهض تحت قوس السواعد العارية عندما تنتظم الريح وتتفكك». في القصيدة الثانية وعنوانها «هنالك»، يقول الشاعر الفرنسي: العين الفأل الخفي تحدق بها الطواحين وأزهار الجنطيانا، تضفر الرقم حراً من صراخ الجموع. الأرض تطارد سموماً ورقى شريرة. بعيداً عن المذابح، بعيداً عن مدينتي المبعثرة، الضباب يخترق ويمنح السماء ظله النقي».. ما من فائدة بالطبع في استدعاء معاييرنا العربية التقليدية ومنها ان الشعر هو الكلام الذي يدل على معنى أكثر الشعر الأجنبي الآن هو شعر تجريدي المعنى فيه نفتقد افتقاداً تاماً أو شبه تام. كما أن هناك رسماً تجريدياً، هناك ايضاً شعر تجريدي يمكن لكل قارئ ان يتلقاه حسب قابلياته لذلك لا فائدة من الوقوف ملياً عند هذا النمط من الشعر لأنه وليد بيئة معينة، وثقافة معينة، وتطور ما في أدب بلد من البلدان، ولأنه موجه أصلاً إلى قارئ قد يفهمه ويبرره، على الأرجح، وقد ينغلق عليه تماماً كما ينغلق على القارئ الأجنبي. ولعل الفرق الجوهري بين الشاعر دومينيك دوفيلبان وبين الشعراء العرب الحداثيين هو أن دوفيلبان شاعر صاح أبعد حدود الصحو في الكثير مما قدمه لمستمعيه في ليلته بالدارالبيضاء. ففي المحاضرة التي ألقاها في المدينة المغربية قال ان التحدي الأخير هو «الحداثة». «فالسؤال الكبير للشعر يتمثل في معرفة كيفية استدامة كلام حي. ولايزال السؤال اليوم هو: أما زال في الاستطاعة ابداع قصيدة في عالم الأنانية؟ ان البربرية واللامبالاة يهددان الكلام الشعري». وهذا يدل على ان دوفيلبان لا يكتب شعراً مجانياً، وإنما يكتب شعراً موجهاً إلى الخاصة أو إلى النخبة في بلده، ولو أن هذا الشعر يبدو منغلقاً أو غريباً في بلدان أخرى. في حين ان الكثير مما يكتب في بلادنا على انه شعر، لا يعنى به في العادة أحد من غواة الشعر، ويبدو غريباً غاية الغرابة في البلد الذي كُتب فيه.