من المسلمات الثابتة الدور الذي اضطلعت به الترجمة في حفظ العلوم وتطويرها. تعد الترجمة أحد أهم مفاتيح التطور العلمي في مختلف المجالات. معظم شعوب العالم لجأت الى الترجمة واستفادت منها. فهي، أي الترجمة، الجسر الذي يصل بين الثقافات والنافذة التي تطل منها الحضارات فلولا الترجمة لظلت الكثير من الأمم في مكانها تراوح، ولظلت الكثير من الشعوب منكفئة على نفسها لا تعرف ماذا يجري في الأماكن الأخرى. بل لولا الترجمة لما تطورت العلوم كما نراها الآن. ان للترجمة فضلا على البشرية عظيما، والتاريخ مليء بالشواهد التي تثبت بشكل واضح الدور الحيوي الذي أدته الترجمة في نهضة مختلف الحضارات. سنلقي الضوء على مثالين، أحدهما ينتمي الى العصور القديمة والآخر حديث نسبيا. أما الأول فهو"بيت الحكمة" الذي أسس في عهد الدولة العباسية والذي تدين له الحضارة العربية الاسلامية بالشيء الكثير. فمن هذه المؤسسة العلمية العظيمة شعت أنوار العلم التي ظلت مضيئة لسنوات عديدة، فقد جمع في بيت الحكمة أفضل المترجمين والعلماء الذين قاموا بترجمة كنوز العلم والثقافة من لغات مختلفة، ثم بعد ذلك وضع علماء المسلمين بصمتهم، فأضافوا اليها وطوروها، حتى أصبحت مؤلفاتهم مراجع مهمة لسنوات طويلة. وقد نقلت تراجمهم ومؤلفاتهم بكثرة الى اللغات الأوروبية خصوصا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وتسمى هذه الفترة "العصر العظيم للترجمة". فضلا عن ذلك، أسس في عدد من المدن الأوروبية مراكز للترجمة من العربية، ومن أهمها المركز الذي أنشئ في مدينة باليرمو الايطالية في القرن الثالث عشر. وفي هذا المركز قام الفيلسوف مايكل سكوت بترجمة أعمال ابن رشد وابن سينا الى اللاتينية وقام أيضا بنقل التراجم التي أنجزها العرب لأعمال كبار الفلاسفة، أمثال: أرسطو وأفلاطون وأفلوطين. ومن المفارقات العجيبة التي تحفظها كتب تاريخ الترجمة أن الترجمة العربية كان لها دور كبير في تعريف الأوروبيين بأفكار أرسطو وأعماله، اذ نقل العرب اعماله الى العربية ثم ترجمها الأوروبيون بعد ذلك من العربية الى اللاتينية. وظل الوضع هكذا فترة من الزمن، حتى بدأ الاوروبيون بترجمة أعمال أرسطو من اليونانية مباشرة. أما المثال الأحدث فهي اليابان التي أسهمت أيضا الترجمة بشكل كبير في نهضتها. وحتى الآن ومع هذا الرقي والتقدم الذي وصلت اليه اليابان، فإنها لازالت تولي اهتماما كبيرا جدا بالترجمة، وتركز جهودها في الترجمة من أغلب لغات العالم في المجالات الانسانية والثقافية والادبية والتاريخية، التي تعد الوسيلة المثلى والرئيسية لفهم الآخر ودراسة تاريخه وحاضره ومعرفة بواطن شخصيته وأسرارها. وهذه بالتحديد هي المهمة السامية الأخرى التي لابد أن تقوم بها الترجمة لاسيما في هذا الزمن المتشعب العلاقات. فإلى جانب الدور المهم للترجمة في الجانب العلمي، فإن لها دورا عظيما في الجانب الانساني والثقافي، فهي بحق كجسر العبور والتواصل الذي يصل بين ضفتين كانتا ستعيشان في عزلة لولا هذا الجسر. لا يعي قيمة الترجمة ألا وافر اللب، ولا يقلل من شأنها إلا قاصر الفهم. من الأخطاء الكبيرة التركيز على الترجمة من لغة واحدة، فلكل دولة انجازاتها وثقافتها وتاريخها، والمملكة تمتلك علاقات في مختلف المجالات مع أغلب دول العالم، ولهذا لابد من فتح نافذة للتواصل معهم والتعرف على ما لديهم وليتعرفوا هم كذلك علينا ويسمعوا منا وليس عنا! إن حركة الترجمة من عدة لغات تتطلب أعداد مترجمين جيدين لعدد من اللغات، وهذا الأمر منوط بكليات اللغات والترجمة التي تحتاج الى الدعم والاهتمام من مسؤولي جامعاتنا الذين يسعون دائما الى الاستفادة من الجامعات الامريكية والاوروبية والاسيوية ومن تجاربهم الناجحة في مختلف المجالات العلمية، وهذا أمر محمود بلا شك. ولكنهم ولسبب غير معروف يتجاهلون اهتمام هذه الجامعات العالمية بتخصص الترجمة وتوسعها في افتتاح كليات للترجمة، بل ان في الصين وبعض الدول الاوروبية جامعات مستقلة للغات والترجمة! عرفوا فلزموا، ونحن عرفنا وتركنا (وربما لم نعرف بعد!). وفي الختام نتساءل: ألم يحن الوقت لإنشاء هيئة للترجمة تجمع الجهود المشتتة وتتولى ملف الترجمة وقضاياها المختلفة وتضعها في مكانتها الطبيعية التي تستحقها؟ المنطق السليم والواقع المعاش يقولان: بلى، قد حان، حان الوقت لإحياء "بيت الحكمة" بإنشاء هيئة رسمية للترجمة، وليكن مسماها اختصاراً "بيت الحكمة"! وعلى كل حال، لا مشاحة في التسمية!