من منكم يذكر قصة بائعة الحليب التي كنا ندرسها في المرحلة الابتدائية وكان لها الفضل في اكتشاف لقاح الجدري! ففي أواخر القرن الثامن عشر كان الجدري - كما هو شأنه دائماً - يقتل ملايين البشر ويصيب الباقين بالعمى والتشوه والإعاقة.. وذات يوم كان الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر يسير في أحد أسواق بركلي حين سمع حديثاً بين بائعتي حليب اشتكت فيه الأولى من انتشار الجدري بين الناس فردت عليها الأخرى: لا أخشى الإصابة به لأنني أصبت في طفولتي بجدري البقر. لفت كلامها انتباه جينر فسألها فأخبرته أن مربي الماشية لا يصابون بالجدري الذي يقتل بقية الناس كونهم يصابون به وهم صغار.. وبدراسة حلابة البقر سارة نيلمس اكتشف أنها محصّنة فعلاً ضدّ المرض كونها أصيبت وهي صغيرة بجدري البقر (الذي يدعى cowpox وتسببه ميكروبات قريبة من الجدري العادي Smallpox ).. ورغم أن علم المناعة لم يكن قد اكتشف حينها استنتج جينر أن من لا يموت بالمرض يملك حصانة ضده طوال العمر.. وكي يتأكد من هذه الفرضية، ولأنه لم يجد من يقبل حقنه بميكروبات الجدري، حقن ابنه بقيح بقرة مصابة فأصيب بحمى شديدة في الأيام التالية (تذكرنا بالحمى التي كنا نصاب بها بعد أخذ اللقاح في المدرسة) ولكنه سرعان ما شفي وأصبح قوياً ومحصنا ضد المرض. وهكذا اكتشف إدوارد جينر (ليس فقط علاجاً للجدري) بل ومبدأ التحصين ذاته ومايعرف اليوم بعلم المناعة.. ومبدأ التحصين يعتمد على حقن الشخص السليم بميكروبات ضعيفة أو مقتولة أو منتقاة (بحيث لا تقتله) ولكنها تحث جهازه المناعي على توليد أجسام مضادة تمنحه حصانة دائمة ضد المرض (وهذا بالمناسبة سر عدم إصابتنا مجددا ببعض أمراض الطفولة). وبعد نجاحها على الجدري طبقت الفكرة لمنح الأجيال الجديدة حصانة ضد أمراض خطيرة كالطاعون والحصبة والتهاب الكبد وشلل الأطفال - لدرجة اختفى بعضها نهائياً من كوكب الأرض (مثل الجدري الذي ظهرت آخر إصابة به في الصومال عام 1980)!! .. على أي حال؛ رغم جمال هذه القصة إلا أنها مجرد استشهاد على الفكرة التي كنت أنوي تقديمها اليوم.. استشهاد على حقيقة أن ما لا يقتلك يقويك في أي جانب من جوانب حياتك (والقتل هنا كلمة مجازية يمكن استبدالها بكلمات مثل يدمرك يحطمك يهزمك يكسرك). فكما أن الميكروبات التي لا تقتلك تمنحك مناعة ضدها، كذلك المصائب التي تعجز عن تحطيمك وكسرك تمنحك حصانة ضدها.. كل مصيبة أو مكيدة أو مظلمة (تعجز عن قتلك) تجعلك إنساناً أقوى وأفضل وأقدر على الخروج منتصراً. تأمل كل المصائب والعقبات التي مرت بك خلال حياتك (وعجزت عن تدميرك) ستكتشف أنها كانت صاحبة فضل عليك وعلى نجاحك وما وصلت إليه الآن.. ستكتشف أن أعداءك - طالما لم ينجحوا في قتلك - يغيروا حياتك، ويشحذوا مواهبك، ويمنحوك مناعة مستقبلية ضد جراثيم بشرية تنتمي لنفس الفصيلة.. وحين تنظر للمصائب المحتملة بحسب هذا المبدأ ستواجهها بمعنويات أفضل واستعداد أقوى وتدرك مسبقاً أنها ليست بالسوء التي تبدو عليه! .. أنا لم أنس قصة بائعة اللبن لأنها تضم مبدأ يتجاوز تحصين الأجساد إلى تحصين العقول والأذهان.. لأنها تمنحنا مناعة نفسية أقوى - ليس فقط بعد انتهاء المصيبة - بل وقبل حدوثها طالما اقتنعنا مسبقاً بمبدأ "ما لا يقتلك يقويك".. تذكر دائماً هذه الجملة وكررها على أطفالك في كل مناسبة.