سبق وأن كتبت مقالا بعنوان "اللقاحات الطائرة"، تحدثت فيه عن فكرة استغلال "البعوض" لإنتاج ونشر الأمصال المقاومة للأمراض .. فبدل أن تنقل أنثى البعوض فيروسات وطفيليات الأمراض للبشر يمكن تعديلها وراثيا لنقل الأمصال واللقاحات المقاومة للأمراض، أو على الأقل إنتاج سلالة جديدة لا تتغذى على دماء الناس يتم إطلاقها لتتزاوج مع غيرها في المناطق الموبوءة... وقلت حينها إن العلماء في جامعة جيشي اليابانية يسعون لتحفيز البعوضة على إنتاج اللقاحات المفيدة داخل جسدها (هي) اعتمادا على الطريقة الكلاسيكية لإنتاج اللقاحات داخل أجساد الخيول والأبقار والحيوانات الأخرى!! ... فمبدأ التطعيم ذاته اكتشف بهذه الطريقة بواسطة الطبيب الإنجليزي إدوارد جنر عام 1796 .. فقد سمع حديثا بين امرأتين من بائعات الحليب قالت إحداهن للأخرى: لقد عاد الجدري إلى قريتنا وأخشى أن نصاب به أيضا.. فردت عليها الثانية: ليس لدي ما أخشاه فقد أصبت بجدري البقر في طفولتي.. وهنا تساءل جنر إن كانت الإصابة بجدري البقر في سن مبكرة تحمي الإنسان في سن متقدمة. وسرعان ما تأكد له أن بائعات الحليب لا يصبن بالمرض لأنهن يصبن في طفولتهن بجدري البقر (وهو نوع أخف من المرض).. كما علم أن المزارعين لا يعتبرون أطفالهم في مأمن من المرض مالم يصابوا بجدري البقر أولا، كون الجدري من الأمراض التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر.. وفي عام 1796 خاطر جنر بسمعته الطبية وحقن جراثيم جدري ضعيفة في ذراع طفل سليم (أصيب في البداية) ولكنه عاد واكتسب مناعة نهائية ضد المرض .. ورغم أن الفكرة كانت معروفة لدى بعض الشعوب (خصوصا في الهند والصين حيث تضع الجدات قليلا من قروح الأبقار على جراح الأطفال) إلا أن تجربة جنر وضعت رسميا مبدأ التحصين الطبي، وهو ما أدى اليوم لاختفاء أغلب الأمراض الخطيرة كالجدري والطاعون وشلل الأطفال !! ... والأمصال التي يتم التطعيم بها قد تكون نوعا من الفيروسات أو البكتيريا أو السموم الضعيفة التي تعمل على تحفيز جهاز المناعة وتتيح له التعرف على المرض لاحقا . ورغم سهولة المبدأ ذاته إلا أن هناك عقبات جغرافية، ومشاكل تموينية، قد تحول دون وصول الأمصال للقرى الفقيرة أو الدول النامية .. فبالإضافة الى قيمة المادة ذاتها التي لاتتحملها الدول الفقيرة يمكن للمصل نفسه أن يُفسد بسبب الرحلة الطويلة أو الحرارة الشديدة أو تلوث العبوة .. لهذا السبب ظهرت فكرة إنتاج فواكه يحبها الأطفال (كالموز والمانجو والبطاطس) تملك في نسيجها اللقاحات المطلوبة.. وهذه الفكرة الغريبة يمكن تنفيذها بفضل "الهندسة الجينية" بحيث تنمو حبة البطاطس أو المانجو وفي داخلها مادة محفزة ضد الملاريا مثلا .. فكما يمكن لحليب الأبقار ودماء الحيوانات المصابة أن تتضمن مواداً محفزة ضد المرض، يمكن التلاعب بموروثات النباتات وتحويرها لإنتاج أمصال طبيعية مماثلة في طريقة مشابهه للفكرة التي تعرضت لها في المقال السابق حول تحوير بعوضة الملاريا لإنتاج ونشر اللقاحات المفيدة بطريقة صامتة ولطيفة .. ويكمن جمال الفكرة في أن حبات الموز أو المانجو يصعب تلويثها ( كإبر الحقن) ولا تحتاج الى برادات (مثل الأمصال) وتلقى إقبالا من الأطفال (بعكس الحقن المخيفة) ويكفي تزويد المزارعين ببذورها المهجنة لتتحول إلى صيدليات متنقلة !! ... الشيء الذي لم أفهمه شخصيا هو سر عدم انتشار هذه الطريقة حتى الآن؛ فالفكرة ذاتها طرحت منذ السبعينيات وفي كل عام أو عامين تظهر تجربة جديدة تثبت فعاليتها (بما في ذلك استخدام البطاطس لإنتاج لقاح الكبد الوبائي، وإنتاج موز مثبط للحصبة في جواتيمالا) !!! .... واليوم بدأت أتساءل إن كان لشركات الأمصال التقليدية دور خفي في الموضوع ؟!