جميعنا سمع بنبوءة نهاية العالم التي كان يفترض حدوثها قبل عامين (2012) وكتبتها حضارة المايا قبل قرون.. العجيب أن خيبة الأمل التي تبعتها لم تقدم للناس درساً في عدم الإيمان بمثيلاتها كوني سمعت مؤخراً عن نبوءة جديدة ترافقت مع ضم روسيا لجزيرة القرم.. فقبل عقدين من الزمان تشكلت في كييف بأوكرانيا جمعية مسيحية تدعى "الأخوة البيضاء" امتدت إلى أوروبا الشرقية. وهي طائفة كانت في الأساس تؤمن بأن العالم سينتهي في نوفمبر2002.. وقبل الموعد بأيام تجمهر أعضاء المنظمة في الساحة الرئيسية في كييف انتظاراً لنهاية العالم وصعودهم إلى السماء. وحين غربت شمس اليوم الموعود دون حدوث شيء قامت أعمال شغب تم على اثرها اعتقال زعيم الطائفة موشى بوزليف الذي أعلن بعد إطلاق سراحه أنه ارتكب أخطاء رياضية وأن الموعد الحقيقي سيكون في منتصف عام 2014 (أي هذا العام).. وما أعطى اليوم زخماً لنبوءته ضم روسيا لجزيرة القرم وما قد يترتب على ذلك من أزمات عالمية قد تنتهي بحروب نووية مهلكة حسب نظرة المؤمنين بها! ورغم قناعتي بأن الأيام ستثبت فشل هذه النبوءة أيضاً (وانضمامها لقائمة 34 نبوءة مماثلة أعرفها) يظل كتاب القرون لنوستراداموس هو المرجع الذي يعود إليه الجميع كلما ظهرت بوادر أزمة عالمية جديدة.. فبعد فترة تجاهل طويلة (امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية القرن العشرين) عاد الهوس بالكتاب والمؤلف بعد تفجيرات سبتمبر2011 كما تثبت مبيعات أمازون وإحصائيات محركات البحث على الإنترنت.. ... وقبل التوسع أكثر أشير إلى أن نوستراداموس طبيب وفلكي فرنسي عاش بين عامي 1503 و1566 واشتهر كمنجم وفلكي أكثر منه كطبيب وأديب شاعر. وفي عام 1554 استقر في سايلون الفرنسية وبدأ في تأليف كتاب "القرون" أعظم مرجع غربي في النبوءات والتنجيم وأحداث المستقبل.. وهو مكون من عشرين جزءاً يتحدث فيها عن أهم الأحداث التي ستقع في العشرة قرون القادمة (أي حتى عام 2554 على الأقل).. وأول شهرة حققها الكتاب حدثت خلال حياة نوستراداموس نفسه حين تنبأ فيه بموت الملك هنري الثاني بطريقة عنيفة.. وسرعان ما عين كمستشار خاص للملك شارل التاسع كما عُين كمستشار وطبيب في بلاط الملك هنري الثامن!! وبعد وفاة نوستراداموس تحول كتاب القرون إلى أسطورة وأصبح مرجعاً للنبوءات في كامل أوروبا. ورغم انه يضم مئة واقعة (فات أوانها) إلا انه أصبح بمثابة "وعاء" تعثر فيه كل جهة على ما يؤيدها. فبسبب ضخامة الكتاب وكتابته بطريقة شعرية مبهمة أصبح من السهل ادعاء وجود أي نبوءة فيه.. فهو مثلاً يضم نصوصاً تتفق مع الحرب العالمية الأولى (حيث يموت أمير الصرب فتحرق النار كل أوروبا) وظهور هتلر أو هايلر (الذي يصل بجنوده إلى بلاد الجليد والنار) وقصف اليابان بالقنابل الذرية (حيث يدمر طائر الظلام مدينتين عظيمتين في الشرق) وانهيار الاتحاد السوفييتي (حين يفتح الأصلع بوابة الحديد على العالم)... وبهذه النصوص الغامضة أمكن العثور على مايشير إلى اغتيال كينيدي ومقتل ديانا وظهور طالبان وتفجيرات نيويورك عام 2001 .. وفي تلك الأيام وصل الهوس بالكتاب حد إنتاج هوليود لفيلم خاص بحياة نوستراداموس، في حين استضافت محطة CBS خبراء لتحليل نص يقول: "في أول عام من القرن الجديد، وفي الشهر التاسع، سيطيح الطائر المعدني بتمثالين عظيمين في يورك"!! ... الحقيقة هي أن شعبية كتاب القرون تعود إلى طبيعة الإنسان نفسه الذي يتشبث بأي تلميح يشي بالمستقبل أو يدعي علم الغيب.. أما الحقيقة الأكبر والأهم؛ فهي أن شعبية أي كتاب لا تعني بالضرورة صحته أو دقة المعلومات الواردة فيه .. وحين يتجاوز حداً معيناً من الضخامة (ويتضمن كماً هائلاً من الأحداث والفرضيات والأفكار المتقاطعة) يتحول إلى جراب حاوي يعثر فيه كل إنسان على ما يؤيد وجهة نظره الخاصة...