بالأمس القريب احتفل العالم في 18 أبريل بيوم التراث العالمي، هذه المناسبة التي تحتفي بها المملكة للسنة الثانية على التوالي (المرة الأولى العام الفائت في جامعة دار العلوم بالرياض) لتقول للعالم إننا نهتم بتراثنا الوطني وان هذا التراث مرتكز من مرتكزات هويتنا وشخصيتنا. هذا العام كان الاحتفال في جامعة حائل التي احتضنت هذا الحدث على مدى يومين (الأربعاء والخميس الفائتين) وفتحت الباب لأبناء حائل والمملكة كي يعرفوا أن بلادهم كانت عبر التاريخ جزءاً من الأحداث السياسية والاقتصادية الساخنة التي كانت تدور في العالم وأن هذه البلاد لم تكن معزولة في يوم عما كان يحدث حولها، فتراثنا الوطني هو نتاج هذه التجربة الطويلة والعميقة التي مر بها أبناء الجزيرة العربية. المفهوم "الكوني" للتراث هو ما يجب علينا أن نفكر فيه في يوم التراث العالمي، فنحن جزء من العالم، ونحن لا نحتفل بتراثنا لوحدنا فالعالم كله يحتفل بالتراث ليس كقطعة "بالية" من التاريخ بل كمكون أصيل للمستقبل. الإنسان يسعى للمحافظة على تنوعه الثقافي والجذور التي نبع منها هذا التنوع تكمن في التراث وبذلك يكون هو "الصانع" للتنوع الثقافي المستقبلي مع هذا المد الكوني للثقافة الواحدة التي صارت تطمس المميزات المحلية للشعوب وتقوض وجودها. الاحتفال بيوم التراث في حائل هو تأكيد على أن كل بقعة في بلادنا مليئة بمواقعها التراثية، وهي جديرة بأن تكون مكاناً يحتفل فيه العالم بتراثه الإنساني، وحائل على وجه الخصوص التي تستعد لتسجيل أول موقع للتراث العالمي في جبة والشويمس، تعتبر من أهم المواقع العالمية للرسوم الصخرية ويوجد فيها أجمل رسومات للخيل في العالم. هذه الثروة الحضارية التي تمثلها حائل، ليس على المستوى الوطني فقط بل على مستوى العالم، يجب أن يتعرف عليها أبناء الوطن، قبل غيرهم وهو الواجب الذي نراه ملقى على عاتقنا في الهيئة العامة للسياحة والآثار يشاركنا في هذا الهم مؤسسات التعليم العالي في المملكة التي صارت تتفاعل بشكل ملفت للنظر مع التراث الوطني وتخصص له البرامج الدراسية وتنفق على البحوث والدراسات المتخخصة فيه. قبل أيام كانت المملكة ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والآثار، تحتفي في جامعة أكسفورد بمراجعة سلسلة من البحوث العلمية التي تم إنجازها حول الجزيرة العربية، تاريخها وثقافتها وأركيولوجيتها، وكانت كلمة الأمير سلطان بن سلمان عبارة عن "مقاربة" بين جزيرة العرب عبر تاريخها البعيد وتاريخها المعاصر، فهذه الأرض المباركة لم تكن منبعا للإسلام عبثاً، ولم يتم اختيارها كي تكون الحاضن لبيت الله (الكعبة) التي بناها إبراهيم عليه السلام، قبل 2400 سنة قبل الإسلام، عبثاً فقد كانت مهيأة للعب هذا الدور العظيم ومازالت، وأن دعوة إبراهيم بأن تهوي قلوب الناس لهذا البيت وأن يرزقه الله من كل الثمرات كانت بداية "الفعل الحضاري" والحياة الفعلية للمكان. كما أن الإسلام لم يظهر فيها هكذا دون مقدمات تاريخية وبلوغ الجزيرة العربية حالة حضارية تجعلها تستقبل هذا الدين العظيم. إن قراءة التراث، كما يراها الأمير سلطان تتطلب هذا الفهم العميق لهذه السياقات التاريخية المهمة، فجزيرة العرب كانت على الدوام مركزاً حضارياً غنياً ثقافياً واقتصادياً؛ فطرق القوافل والمحطات الاقتصادية كانت مشعة بالحضارة عبر التاريخ. هذه المقاربة التي أثارها الأمير سلطان جعلتني أفكر بطريقة مختلفة في تاريخنا وتراثنا وأن أركز أكثر على عبارة "التاريخ يعيد نفسه" وأن حلقات التاريخ تكرر نفسها، فكما كانت الجزيرة العربية مهيأة لاستقبال الإسلام في فترة تاريخية معينة كذلك كانت مهيأة في التاريخ الحديث لهذه الوحدة المباركة التي تعيشها المملكة في عصرنا هذا، فدعوة نبينا إبراهيم لهذه الأرض كي تكون مستقراً ومهبطاً للنفوس تهوي إليها وان تكفلها الله بالرزق، هي مقومات تاريخية أساسية لإعادة قراءة تراثنا وتاريخنا الوطني فنحن جزء من هذه الحلقة الممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولعل هذا يجعلنا نحتفى أكثر في دراستنا لهذا التراث بالمفاصل التاريخية التي من خلالها ولدت هذه الأرض من جديد، فهي كل مرة تولد لتكون لاعباً أساسياً في صناعة التاريخ ولم تعش يوماً كلاعب احتياط، وهو ما يجعل دور المملكة اليوم كبيراً بقدر حجمها الحضاري وتأثيرها الثقافي على مستوى العالم. دعوني أقول إن دعم الدولة للتراث الوطني، من خلال مشروع الملك عبدالله للعناية بالتراث، لم يكن مصادفة بل هو تأكيد على "دور المملكة الحضاري" وهذا ما يجب أن نتنبه له، فالمسألة لا تتوقف عند "الاحتفال" فهو مجرد بداية أو نهاية لمرحلة وبداية مرحلة أخرى، احتفاء بإنجازات تعدنا لمرحلة إنجازات أكبر، وهذا ما نحاول أن نقوله لكل أبناء الوطن اننا نحتفل معهم بيوم التراث العالمي وسنحتفل به العام القادم في جامعة تبوك التي رحبت باستضافة اليوم في رحابها، وسنظل نحتفل به إن شاء الله لأننا نعتبر هذا اليوم جزءاً من الدور الحقيقي الذي تلعبه بلادنا في تشكيل ثقافات العالم، فهذا قدرنا وهذا هو الدور المنوط بنا. نريد لأبناء هذا الوطن أن يفخروا بانتمائهم لهذه الأرض الطيبة الولادة، فهي مصدر ومنبع للحضارة وأن ملعبها الحقيقي هو ملعب بحجم الإنسانية، كما يؤكد ذلك أمير السياحة، وهذا ما يؤكد عليه التاريخ وتؤكده المكتشفات الأثرية. من المؤكد أن الرسالة التي يمكن أن تبعث بها المملكة للعالم، عبر تراثها الوطني، ستكون رسالة معبرة، فهذه البلاد ليست "محدثة حضارة" وليست "محدثة نعمة". هذه الرسالة التي يجب أن نتشارك مع العالم فيها هي التي ستجعل الجيل الشاب في هذا البلد يفخر ويعتز ببلاده ودورها المهم. البعد الحضاري العميق الذي تمثله هذه الأرض هو الكنز الحقيقي الذي لن ينضب، بل هو المورد المتجدد الولود الذي يجب أن ننفض الغبار عنه ونرعاه فمنه تتشكل هويتنا ومنه سيتعرف علينا العالم من جديد.