في العام 1989 كتب فرانسيس فوكوياما مقالاً شهيراً تحت عنوان «نهاية التاريخ» استنتج فيه يومها أن سقوط المعسكر الاشتراكي وتهاوي الأنظمة الشمولية يفتح الطريق أمام انتصارات الديمقراطية الغربية والرأسمالية وربما يتيح إقامة عالم تحكمه الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية من لون واحد وتحت هيمنة أمريكا. بعد هذا المقال في العام 1989 اضطر فوكوياما لكتابة أكثر من مقال ليؤكد أن الصراعات التي فجرتها النزعة الأمبراطوية الأمريكية تعيق تجسيد نهاية التاريخ مع تفاؤل أن فرض الديمقراطية ونشرها سيتحقق في النهاية في إطار العولمة، لكن فوكوياما في مقال أخير له قبل أيام أطلق شكوكاً حول حسم نهاية التاريخ لأن بروز قوى كبرى وصنع حكم مختلفة ومختلطة أدت الى إعاقة الانتصار للرأسمالية الذي بات مشكوكا فيه، وأكثر من ذلك فإن القوى الجديدة والأفكار المتطورة قد تفرض صورة مختلفة لحركة التاريخ وصراعاته التي لا تنتهي ولن تنتهي، لكن فوكوياما يستبعد ذلك وبشكل خاص حرب باردة جديدة في وقت تقبلت الصينوروسيا بارتياح أو تبني النصف الرأسمالي من الشراكة بين الرأسمالية والديمقراطية، بدلاً من الأفكار الكبيرة، تسير القومية روسياوالصين وتتخذ أشكالاً مختلفة في كل منهما، ومن سوء الحظ ان تكون روسيا قد اختارت صيغة القومية لا تنسجم مع حرية الدول المحاددة لها، وإني لأخشى أن لا تكون جورجيا آخر جمهورية سوفياتية سابقة تعاني من آثار جرح الكبرياء الروسي. لكن روسيا اليوم ما تزال مختلفة كثيراً عن الاتحاد السوفياتي السابق. إذ يطلق على بوتين لقب «القيصر الحديث» وهو لقب أقرب الى الحقيقة من أي تشبيه له بستالين أو هتلر. فروسيا القيصرية كانت قوة عظمى ذات طموحات محدودة استطاعت ان تصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدول الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر رغم قيامها بسحق الدول الضعيفة المحاددة وتجريد شعبها من حرياته. وأتوقع أن تسير روسيا ما بعد بوتين بهذا الاتجاه بافتخار في الألعاب الأولمبية، فهي أكثر تعقيداً. يطالب الصينيون باحترام العالم لما قاموا به في مجال إخراج مئات الملايين من مواطنيهم من دائرة الفقر خلال جيل واحد. لكننا لا نعرف بعد على وجه التحديد الكيفية التي سوف يترجم بها هذا الافتخار أي سياسة خارجية. فباستثناء تايوان، لا تشعر الصين بذلك النوع من الحيف الشديد الذي تحمله روسيا بسبب تقلص أمبراطوريتها أو توسع حلف الناتو إلى داخل ما كان في السابق المعسكر السوفياتي، وسوف تجد الصين ما يشغلها عندما تواجه مسألة المحافظة على الاستقرار الداخلي عندما تحين ساعة التباطؤ الاقتصادي المحتومة. بخلاف ما كان عليه الأمر في العصور الأمبراطورية، تتمثل مشكلة الصين اليوم في افتقارها إلى تحديد ما تمثله بالنسبة للعالم الأوسع. إن ما يدعى بتوافق بكين الذي يربط ما بين الحكومة الاستبدادية واقتصاد السوق يلاقي شعبية كبيرة في الكثير من الدول النامية، وسبب ذلك وجيه جداً: فتحت حكم بكين يستطيع الزعماء الوطنيون كسب المال والاشتغال بالتجارة بدون أن يهددوا بالديمقراطية وحقوق الإنسان. أمن وأكثر خطراً في آن واحد. فهو أكثر أمناً لأن المصلحة الذاتية للقوى العظمى مرتبطة الى حد كبير بالرخاء العام للاقتصاد العالمي مما يحد من رغبة تلك القوى بقلب الطاولة. وهو أكثر خطراً لأن الاستبداديين الرأسماليين يمكن أن يصبحوا أكثر ثراء وبالتالي أكثر قوة من نظرائهم الشيوعيين. فاذ لم تتغلب العقلانية الاقتصادية على الشهوات السياسية (وهو ما كان يحدث غالباً في الماضي) فإن منظومة الاعتماد المتبادل تعني أن المعاناة تلحق بالجميع. علينا، أيضاً، ألاّ نترك للتكهنات بشأن عودة الأنظمة الاستبدادية أن تحرفنا عن قضية حاسمة سوف تصوغ بالفعل المرحلة القادمة من السياسة العالمية وهي ما إذا كانت المكاسب المتحققة في مجال الإنتاجية الاقتصادية قادرة على مواكبة الطلب العالمي على سلع أساسية مثل النفط والغذاء والماء. فإن لم تستطع ذلك، فنحن متوجهون صوب عالم مالثوسي تكون فيه مكاسب إحدى الدول خسارة للدولة الأخرى. وسوف تزداد صعوبة إقامة نظام عالمي ديمقراطي ومسالم تحت مثل هذه الظروف. لأن النمو سوف يعتمد عند ذاك على القوة الفجة ومصادفات الجغرافيا بدلا من اعتماده على المؤسسات الجيدة. ويشير ارتفاع معدلات التضخم العالمي إلى أننا قد قطعنا شوطاً لا بأس به باتجاه ذلك العالم. وإلى حد ما يظل فوكوياما مؤمناً بنهاية التاريخ ولو بعد حين.