كتبت قبل فترة طويلة مقالاً بعنوان "هل كنا سنعرفهم لولا أم كلثوم" قلت فيه إن ثقافتها الأدبية وذائقتها الشعرية كانت سبباً في تعريفنا بقصائد وشعراء لم نكن نعرف عنهم شيئاً، وضربت حينها مثلاً بقصيدة "رباعيات الخيام" للشاعر الفارسي عمر الخيام (التي طلبت من أحمد رامي ترجمتها للعربية) و"حديث الروح" للشاعر الباكستاني محمد إقبال التي طلبت من رياض السنباطي تلحينها مهما كان الثمن، وقلت إننا لم نكن لنسمع بشعراء عرب كثر لو لم نكن تتابعهم وتقرأ لهم مثل جورج جرداق من لبنان، والهادي آدم من السودان، وعبد الله الفيصل من السعودية، ونزار قباني من سورية، وعلي أحمد باكثير الحضرمي الذي ولد في إندونيسيا. ولا أخفي عليكم أنني شخصياً تعرفت لأول مرة على الشاعر اللبناني جورج جرداق أثناء بحثي المبدئي لكتابة ذلك المقال.. وأذكر حينها أنني أكبرت في الرجل (وهو المسيحي الديانة) احترامه الكبير للشخصيات الإسلامية وهوسه الصادق بشخصية الإمام علي رضي الله عنه على وجه الخصوص. ومايجعله صادقاً في حبه واحترامه تجاوزه دائرة المجاملة والتملق إلى تأليف كتب تبين عظمتهم وعبقريتهم مثل صلاح الدين وقلب الأسد وعبقرية العرب وروائع النهج وعلي وحقوق الإنسان، وعلي والثورة الفرنسية، وعلي وسقراط، وعلي وعصره، وعلي والقومية العربية - والتي تم جمعها لاحقاً في ستة مجلدات تحت عنوان: علي صوت العدالة الانسانية. واليوم تذكرت جورج جرداق (الذي غنت له أم كلثوم قصيدة هذه ليلتي) بعد أن قرأت بالصدفة لقاء معه في صحيفة المنبر قبل وفاته عام 2005. ومن ضمن ماقاله في هذا اللقاء (والكلام له بعد الاختصار والتصرف): تلقيت دروسي الأولى في مدارس بلدتي(مرجعيون) التي عرف أبناؤها بحبهم للعلم، وكنت في طفولتي أهرب من المدرسة حاملاً معي كتابين هما ديوان المتنبي، ومجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي، وألجأ إلى كنف الطبيعة الجميلة لأقرأهما بنهم. وذات مرة رآني شقيقي فؤاد فجاءني بكتاب (نهج البلاغة) للإمام علي وقال لي: أدرس هذا الكتاب بصورة خاصة، واحفظ منه ماتستطيع حفظه.. ومن هنا تعرفت على شخصية الإمام علي.. وكنت كلما مر الوقت أدرك أنه كان أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الباحثين من قدامى ومحدثين، وإن إنسانيته تنبثق من فكر صاف وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي وإن ما دعا إليه، بمبادئه وسيرته، يتجاوز حدود الزمان والمكان وإصرار الباحثين على حصر شخصيته العظيمة بموضوع الولاية أو سائر الموضوعات المحلية التي نعرفها. وهكذا ارتأيت لإظهار الحقيقة أن أضع كتاباً موسوعياً يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة، وبعض الإنصاف لها، واستدراك ما أهمله المؤلفون عنها، وكان المجلد الأول بعنوان(علي وحقوق الإنسان) الذي أثبت فيه بالدلائل أن علياً سبق مفكري أوروبا والعالم إلى إدراك هذه الحقوق وإعلانها قبلهم بقرون عديدة. وكان المجلد الثاني بعنوان (بين علي والثورة الفرنسية) وفيه تأكيد على السبق الذي حققه على فلاسفة الثورة العظام. وكان المجلد الثالث بعنوان (عليّ وسقراط) كون سقراط هو أبو الفلاسفة الإنسانيين وكيف أنه والإمام علي يلتقيان على كل صعيد، إلى آخر السلسلة التي تتألف من ستة مجلدات حمل آخرها عنوان (روائع النهج) الذي أبديت فيه تأثري الأدبي والفكري بالمقولات العظيمة والبليغة للإمام علي. بعد هذا الكلام أيها السادة؛ لايسعنا القول سوى إن جورج جرداق رجل لا يقل صدقاً وإنصافاً عن هرقل الروم، ونجاشي الحبشة، ومقوقس مصر، الذين لم تمنعهم خلفيتهم الدينية من الاعتراف بعظمة الرسالة، ونبل الصحابة، وسمو الهدف، بل زاد عليهم في تأكيد إنسانية الإمام علي -رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين- وارتفاعه فوق كافة الأحقاد والنعرات التي بدأت تتبلور في عصره.