وصلني عبر «الواتس آب» مقطع لأحد المشايخ يعلن فيه إنكاره لدوران الأرض، ويدعي مركزيتها ودوران الشمس والأجرام والأفلاك حولها، بالتالي؛ فكل الاكتشافات العلمية المعتمدة على نظرية حركة الأرض، وتوصل لها علماء عظماء كفيثاغورس، وكوبرنيكس وجاليليو ونيوتن وآينشتاين.. وغيرهم إنما هي باطل من العلم وزور، ويجب أن نردها لنفوز بالإيمان بالله ورضاه الذي ربطهما هذا الشيخ برد هذه النظرية العلمية العظيمة، فأين نحن سائرون؟!! تتمظهر العلمانية في تبني النسبية التي هي الطريق لكل ما هو خير، لأنها لغة القبول الشاملة لكل خير؛ هي نعمة الحياة وبهجة الإنسان وصورة التسامح وابتداء الحرية، فالمؤمن بالنسبية هو بالضرورة إنسان خير، ومتسامح وسلمي ومحب، كونه لايسعى لفرض مكوناته الاعتقادية الذهنية والفكرية على غيره سأعود لهذا الادعاء لاحقاً.. فله ارتباط كبير بمجمل الفكرة العامة التي أود الحديث عنها؛ وهي النسبية والمطلقية، وارتباط العلمانية فكراً بنسبية الحقائق، وعكسها لمن يدعي القبض على المطلق من ملاك الحقيقة المطلقة.. النسبية والمطلق ضدان لا يلتقيان في نقطة، إذ الخلاف في أصل كل نقطة؛ خلاف حول التأسيس الفكري للعقل، فمن يؤمن بمطلق الحقائق هو بالضروة يغلق فكره أمام النسبية، بالتالي أمام العلمانية التي تتقاطع بالضرورة مع مطلقي الفكر وواحدي الرؤية والاعتقاد.. «العَلمانية بحسب «المعجم الوسيط» نسبة للعَالم وهو خلاف الديني الكهنوتي، وعند الغرب هي العالم المتزمن بالزمان أي عالم له تاريخ، ومن هذه الزاوية تقال العلمانية على العالم الزماني والنسبي، أي المتحرر من الصيغ المطلقة».. كتاب رباعية الديمقراطية للفيلسوف مراد وهبة. تتمظهر العلمانية في تبني النسبية التي هي الطريق لكل ما هو خير، لأنها لغة القبول الشاملة لكل خير؛ هي نعمة الحياة وبهجة الإنسان وصورة التسامح وابتداء الحرية، فالمؤمن بالنسبية هو بالضرورة إنسان خير، ومتسامح وسلمي ومحب، كونه لايسعى لفرض مكوناته الاعتقادية الذهنية والفكرية على غيره، يأتي بمقابله؛ الشخص الدوجماطيقي العنصري الكاره الكئيب الظلامي المتخلف القمعي الإرهابي برؤيته الواحدية المطلقة.. عندما يكون المناخ حراً والنسبية حاضرة تأتي المجتمعات والدول المتبنية للعلمانية لتصد كل أنواع التزمت والعنصرية والعجرفة الفكرية والعرقية والنوعية، لذلك يأتي القبول متماشياً مع حق الجميع في الاختلاف. وعند فحص الأفكار يبرز العقل المؤسس لاستراتيجيته البنائية على النسبية التعددية المحظية بثقافة الأنسنة.. على النقيض يأتي البناء الفكري على المطلق كأبرز ما يكون بارتباط الديني بالدنيوي، والإلهي بالإنساني، فيبدأ الخلط الذي يبنى عليه أكبر أنواع الأكاذيب، وأسوأ مدلهمّات الفكر، فتلتبس العلاقات؛ يصبح الشارح والنص واحداً؛ يحضر الإنسان نصاً، والتفسير وحياً، وتسيطر الحرفية على حق التأويل، ويحسم القطع والفصل أمام الرأي والرأي الآخر.. كثيراً ما شوهت العَلمانية، بدعوى أنها دعوة للإلحاد، والقضاء على الأديان، وطريقة للتفسخ والانحلال، بينما هي مجرد دعوة للعَالم، أي دعوة للانفتاح والقبول، يكون الإنسان بها في صورتين؛ قابِل ومُتقَبَّل.. العَلمانية هي باختصار تبني النسبية.. نسبية الأفكار والحقائق.. هي طريقة تفكير، تتيح الحرية وتفتح باب التأويل العقلاني مسترشدة بنور هداية البرهان، ولأن الشيء بضده يدرك؛ أطرح مثالين يتضح فيهما فضل النسبية ونكاية المطلق، وللجميع حرية استنتاج أثرهما على الإنسان والحياة في الفكر والواقع: 1- في الفلسفة الإسلامية يُتخذ ابن رشد في القرن 12م دليلاً على العقلانية في مجال العلاقة بين الشريعة والحكمة، يحدد هذه العلاقة في ضوء نظريته عن المعرفة، فيفرق بين ثلاثة أنواع من المعرفة: خطابية، وجدلية وبرهانية، وأدقها البرهانية، معتبراً طريق البرهان هو طريق الحكمة، إذ «الحكمة هي في النظر إلى الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان»، فالدين يوجب التفلسف، لأن الشرع فيه ظاهر وباطن.. لذلك يؤكد بأن البحث عن الحكمة هو أصل التفلسف، وللتوفيق بين الدين والفلسفة آمن بمبدأ ضرورة التأويل فيما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، فهذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل، وقال قولته الشهيرة «الله لايمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها» فأي فهم لأوامر الله أو نواهيه ينتهي بنا إلى نتائج غير حكيمة وغير معقولة فلابد أن نكون نحن من أخطأنا الفهم، لا يمكن للشارع الحكيم (الله تعالى) أن يطلب شيئاً غير حكيم، ولكن من الممكن أن يخطئ رجل الدين، فهو بشر وقد يخطئ في الفهم».. وهو بذلك ينقذ الدين من الكهنوتية التي عادت قوية بعده في مطلق الرأي وقداسة المقولات، وما سمي بالإجماع كما المثال المقابل: 2- يقول ابن تيمية الذي عاش بين القرنين 13/ 14 م في كتابه (درء التعارض بين العقل والنقل)» إن ما هو ثابت بالسمع فهو ثابت سواء علمنا بالعقل أو لم نعلم بثبوته لا بالعقل ولا بغيره، وإذا كان الشرع يقوم على السمع فيجب تقديم الشرع عند التعارض مع العقل، وتقديمه أيضاً عند التعارض مع إجماع الأمة، لأن الإجماع يستلزم طاعة العقل للسمع.. وهذه الطاعة تستلزم تنازل العقل عن استعمال المجاز في تأويل النص الديني، لأن النص لا يقبل المجاز، ولهذا فمن يخرج عن الإجماع يكون موضع تكفير بالضرورة» المثالان السابقان يظهران بجلاء أثر النسبية/ علمانية الفكر، والمطلقية / الاتباع المقدس، وكلما كان للعقل وجود كان للنسبي أقرب، والعكس صحيح، فالسماع يؤْثر الركود، والتأويل يحدث الحركة وفرق بين الحركة والسكون، ويكفي أن نقارن بين رأي ابن تيمية وقول علي بن أبي طالب عليه السلام (القرآن خط مسطور، لا ينطق إنما ينطق به الرجال) لنلمح فرق الإيمان بالحرفية والتأويل بوعي معكوس على زمانه بأكثر من 600 عام، يتراجع من النسبي إلى المطلق، بقياس ارتدادي بين ابن رشد وابن تيمية.. في الغرب؛ كانت بداية قصة العَلمانية قديمة جداً منذ القرن السادس ق. م، عندما أعلن الفيلسوف فيثاغورس نظرية دوران الأرض، مع تحذيره لتلاميذه من إفشاء هذه النظرية، وبعد عشرين قرناً أي في القرن 16 نشر العالم الفلكي البولندي نيقولا كوبرنيكس كتابه العظيم «عن دوران الأفلاك» الذي قضى في تأليفه 36 عاماً، وقد دلل فيه على دوران الأرض وعدم مركزيتها، ورغم قناعته وهو يحتفظ بسرية هذا الكتاب بأن أشخاصاً سيطالبون بإعدامه هو وأفكاره، لكنه كان على وعي بأن عقله يجب ألا يذعن لعقول الدهماء، وفعلاً حرمت الكنيسة كتابه بدعوى أنه كافر..، ثم جاء جاليليو وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنيكس ونشر كتابه المشهور» حوار حول أهم نسقين في العالم» فصودر الكتاب واستدعي جاليليو إلى روما للمثول أمام ديوان التفتيش لمحاكمته فأنكر وأقسم ووقع على صيغة الإنكار والقسم، وإن كان ضرب الأرض برجله، مردداً بصوت هامس» ومع ذلك فهي تدور». والسؤال: لماذ تعتبر نظرية كوبرنيكس بداية العلمانية؟ «لأنه بابتداع هذه النظرية لم تعد الأرض مركزاً للكون، وعندما لاتكون الأرض مركزاً للكون لا يكون الإنسان بدوره مركزاً للكون، وعندما لا يكون الإنسان كذلك فلن يكون في إمكانه امتلاك الحقيقة المطلقة، ويترتب على ذلك أن يكون الإنسان محكوما بما هو نسبي حتى لو تطلع إلى اقتناص المطلق، فلن يكون في إمكانه اقتناصه، وإن توهمه، ومن هنا يكون تعريف العلمانية أنها «التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق» المصدر السابق بتصرف.. إذاً تعريف العلمانية بأنها «فصل الدين عن الدولة» قول يحتاج لتصويب «لأن هذا الفصل معلول للعلمانية التي هي العلة في هذا الفصل، ومعنى ذلك أنه عندما يكون أسلوب تفكيرك علمانياً يكون بإمكانك قبول فصل الدين عن الدولة، وعكس ذلك ليس بالصحيح».. ومن هنا فالعلمانية هي أسلوب في التفكير قبل أن تكون أسلوباً في السياسة.. لذلك فمن يؤيد نظرية دوران الأرض هو علماني بالضرورة، ومن يرفض العلمانية يرفض دوران الأرض بالضرورة. العلمانية أو النسبية؛ حالة ذهنية خاصة بأسلوب رؤيتنا للكون وطريقة تفكيرنا، وقد تتحول لحالة سياسية بشرط أن تكون مرهونة بحالة ذهنية، فكلما كنت تؤمن بالنسبية فأنت علماني التفكير.. تنظيم الحكم هو شأن حادث نسبي دنيوي متغير، لذلك تفضي النسبية للفصل بينه وبين الدين، لكن»العلمانية/ النسبية ليست دعوة كفر أو إلحاد أبداً.. وإن كذب المدعون.. الصراع في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث كان يعيش كوبرنيكس وجاليليو كان بين الأصولية المسيحية التي تلتزم حرفية النص وترفض إعمال العقل، وبين العلمانية التي تلتزم تأويل النص في ضوء إعمال العقل، وحيث إن الأصولية الدينية الدوجماطيقية تتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيمكن القول بأن الصراع أيام كوبرنيكس وجاليليو هو بين الدوجماطيقية والعلمانية.. ومهما كان الأمر فقد أصبح العلم بعد كوبرنيكس وجليليو قادراً على تكوين رؤية علمية كونية تجبُّ أية رؤية أخرى»، معنى ذلك أنه إذا ما تعارض العلم مع الدين فعلى الدين أن يترك مكانه للعلم.. وبالعودة لرأي ابن رشد نجد النتيجة واحدة حيث يأتي التأويل درءاً لتعارض العقل والدين، وإنقاذاً للحكمة الإلهية عن القبول بأحكام غير حكيمة، ونسبتها للشارع الحكيم.. الحقيقة النسبية؛ يجدها الإنسان ثم يؤمن بها، ولا يمكن تسميتها حقيقة تلك التي نؤمن بها- استباقاً- ثم نجدها.. لأننا في الحقيقة لن نجدها.. يجبر المرء على الإيمان بما نسميه مسلّمات، وهي في العموم أمور نسبية وتفسيرات دينية ألحقت بالمقدس ظلماً وعدواناً.. والدوجماطيقي يشيع مزيداً من الجهل الساكن والجامد على التراث، ليصادر حق العقول في الفهم والإدراك والوصول للحكمة.. وإن كفّر غيره وقتل سواه.. تشظّي القتل في عالمنا العربي يلتمس حق الإفناء من هلكة الحقائق المطلقة.. يقول صاحب التسجيل المذكور في بداية المقال»لا شك عندنا ولا عند المؤمنين في أن الأرض ثابتة، وأن الشمس تدور عليها والكواكب والأفلاك، وهذا لا شك فيه، أما الفكرة الغربية العقلية والبشرية فيقولون العكس، هل أحاطوا بعلم الله، بمخلوقات الله، ما يجوز هذا الكلام» الرأي السابق كان مما تبنته ودافعت عنه الكنيسة حتى القرن السادس عشر، ونحن نعلنه اليوم على الملأ كحقيقة مطلقة بعد أكثر من 430 سنة على دحضه، لا غرابة؛ فالخلط الممارس باسم الدين دائماً ما يواصل الضلالات، ولعلنا نذهل أكثر عندما نقيس ارتداد العقل العربي بين فكر ابن رشد، ورأي هذا الشيخ زمانياً بتسعة قرون، فندرك حاجتنا للإنقاذ من الكهنوت وحقائقه القطعية الفاحشة.. ولئن علمنا أن إبداع كوبرنيكس الخاص بنظرية دوران الأرض كان في زمن محكوم بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى الأوروبية، وأن صدور كتابه عام 1543م اعتبر حداً فاصلاً بين نهاية العصر الوسيط حيث استبداد الكنيسة، وبداية العصر الحديث حيث رحاب العلم ورفاه الإنسان.. فإن تغيّر حالنا المزرية تجاه العلم والإنسان والحياة يبدأ بإنقاذ حكمة ابن رشد؛ بتحريرها من كهنوت القمع والقطع، ونقلها إلى نور النسبية والعلمانية والانفتاح.. علّ للخروج من سبيل..