التماس مع عالم الأفكار والتصورات شأن قديم، قدم الإنسان في حكاية الوجود، وأية أمة تتيح التعددية في مجال الفكر وفي مجال الفعل والأثر في سبيل سعيها للبناء الحضاري مع الأمم الأخرى فلا بد أن تكون نسبية الحقيقة خيارها الأوحد، ذلك أن مسار الحضارة مسار حداثة متجدد.. يستلهم بقابليته المنفتحة على التنوع، الشك المعرفي ونسبية الحقيقة، كونهما أبرز مكونات الوعي الحر البناء، ما يفتح آفاق الابتكار والازدهار والإبداع في العالم. "دعا ديكارت للشك في كل المعارف الإنسانية باستثناء الشك نفسه، ولما كان الشك تفكيراً فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجوداً فأنا موجود، هكذا انتهى ديكارت إلى حقيقة واضحة ومؤكدة ومتميزة؛ وهي "أنا أفكر إذاً أنا موجود" وهي تعني أن الإنسان كائن مستقل ومحدد لذاته" كتاب الأصولية والعلمانية للمفكر الفيلسوف مراد وهبة. من المفارقات المؤلمة لدينا؛ أن يتناول حريةَ التفكير أعداءُ التفكير؛ فيوهموا الإنسان بكلام لايفارق حناجرهم، كادعائهم بأنهم لاينكرون شأن الالتزام ب «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» في الوقت الذي يعادون فيه أصحاب العقول المتفكرة، وينعتونهم بالزنادقة أو الكفار، وربما طالبوا بتصفيتهم وقتلهم انتصاراً لوهم دوغماطيقيتهم الرعناء من المفارقات المؤلمة لدينا؛ أن يتناول حريةَ التفكير أعداءُ التفكير؛ فيوهموا الإنسان بكلام لايفارق حناجرهم، كادعائهم بأنهم لاينكرون شأن الالتزام ب "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" في الوقت الذي يعادون فيه أصحاب العقول المتفكرة، وينعتونهم بالزنادقة أو الكفار، وربما طالبوا بتصفيتهم وقتلهم انتصاراً لوهم دوغماطيقيتهم الرعناء، وهم في سعيهم للخلط، يركزون دوماً على التداخل بين خطابهم والنص المقدس، ملبسين خطابهم ذات القداسة، ومصادرين حق التأويل لهم دون سواهم، ومن هنا تبدأ حكايات العنف ضد المعرفة المشرعَن الرافض لأي تنوير يخص إزاحة الوهم الكهنوتي الجاثم على العقول (وهم الخلط في خطابهم المرموز بالشرعي بينما هو إنساني في أصله واعتباره، وبين النص المقدس) ما عليك لتلمس معالم هذا الخطاب الكهنوتي السطحي سوى العودة لحلقة برنامج (حراك- الإلحاد.. التطرف المضاد!!)، في مناقشته الإلحاد في السعودية لتستمع لخطاب مؤمن بشرعنة قدسيته الواهمة ممثلاً بالواعظ" خضر بن سند" إذ يقول" أشياء كثيرة بيّنها الله لنا ونحن ننقلها للناس"، "فمن يقول إن الخطاب الديني ليس أهلاً فهو يطعن في النبوة"!! "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، نحن نبين الدين، وظيفة الرسل وظيفة الأنبياء هي بيان الدين"بلغ ما أنزل إليك من ربك" في خلط سادر في وهمه بين الوعاظ والأنبياء!! ولأن شيطنة الآخر؛ أي آخر مختلف هي أهم معضلات هذا الخطاب، فإنني عندما ساهمت بمداخلتي الواضحة جداً وقف منها د.عبدالله الشهري بتأييد مبرأ من كل كلمة أقصدها، كمن يبرر أمراً باطلاً يرجو السماح منه، أما الواعظ خضر بن سند فاستهل الرد علي مباشرة بآية تحذر د. الشهري (الذي كان للأمانة أكثر وعياً بمراحل واضحة) والمستمعين من الاغترار بالمنافقين، منتقداً د. الشهري على حسن نيته رغم أنها مشروطة ببراءته من مقاصدي المخبأة!! استشهد الواعظ خضر مباشرة بالآية (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) عندما يغتر بعض المستمعين بالعبارات فيها كلام معسول والظن بأنه حسن، والله يقول بوصف هذا الكلام تسمع لهم كأنهم خشب مسندة، أي أنه كلام ممتلئ لذةً وحلاوة لكن باطنه غير ذلك" هو مطمئن بأنه لن يساءل كيف اطلع على الباطن؛ كونه من أهل الكشف عن الطوية والنوايا، ويحق له الرمي بالغيب والحكم على قلوب العباد بحكم قداسته.. ثم تناول قضية الإلحاد بسذاجة المبالغات التي تتوهم وجود مؤامرة وتنظيمات وخلايا تعمل في السر، لها أجندات وتمويل داخلي وخارجي، بدون الاستناد لأي معلومة موثقة سوى إشاعة الوهم!! ولأنه خطاب متعصب لا يطيق التعايش فقد عبر عن التعددية بأنها مجرد شر محض، مظهراً تبرمه الشديد لمناداة مقدم البرنامج لي ب"الأخت"!! لم يقاطع مقدم البرنامج الإعلامي المعروف عبدالعزيز قاسم، خضر بن سند عندما اتهمني بالنفاق، بل كان الإنصات حقه المبذول بكل أريحية، في المقابل كان جاهزاً للدفاع عنه إثر مداخلة قيمة للأستاذ الحقوقي وليد أبو الخير عندما استدل بمقولة تعبر عن حالة خطاب الوعاظ المتمثل في ضيفه ابن سند!!.. كشفت مداخلة أبو الخير المغالطات المدلسة لخطاب الوعاظ، ومبالغاتهم في قضية انتشار الإلحاد، والتي حددها بأنها مجرد حالة تبرم عامة من سلطة الكهنوت، ورغبة في التحرر من خطاب الكراهية والاستبداد، الذي يناهض النص الديني في دعوته لحرية الفكر والمعتقد. لا غرابة؛ فكما عادة الوعاظ؛ جرى تفصيل وهم الإلحاد على مقاس المجتمع، ليحصروه في دائرة المقبوض عليهم بتهمة التفكير خارج واحدية خطابهم وحقهم بمصادرة التأويل.. في مداخلتي ذكرت بأن القرآن الكريم أصّل لتأسيس المعرفة بالبحث المعرفي الفردي، الذي يعتمد الشك والبحث والاكتشاف لبلوغ الطمأنينة الإيمانية بالسؤال الحر والبحث العميق، يمثل ذلك قصص الأنبياء كقصة إبراهيم عليه السلام عندما قال "رب أرني كيف تحيي الموتى" ليسأله تعالى: "أو لم تؤمن" فيجيب: "بلى ولكن ليطمئن قلبي" وقصص أخرى كقصة إبراهيم عليه السلام مع الكواكب وغيرها.. فالإلحاد: الذي يعني (إنكار وجود الله صراحة) لايمكن تضمينه أسئلة الوجود المتأملة؛ لأنها مجرد تمرحل فكري للتعبير عن قلق وجودي خاص، مرهون لحق الإنسان الحر في البحث والتفكير والتأمل.. وأشرت إلى عاهة الخلط في العلاقات التي ولّدت خصوصية كهنوتية تفجر في المختلف، وما حالة التعصب والسطحية والسذاجة والخرافة التي يتناول فيها الدين والمعتقد في ظل انعدام للقيم وتوقيف شكلاني للمتدين، وفرض قداسة لما لا قدسية له؛ كالأشخاص ومقولاتهم، إلا تمظهر متكرر لتلك الكهنوتية الباغية.. فلدينا فجور ترهيب وتخويف وترصد ورغبة وحشية كارهة وحادة - وللأسف - مسيطرة، تهدد بالتصفية الجسدية، وتغضب لو فر أحد من القتل ولو على إثر تغريدة... ولعل مقولة فولتير (إن الذي يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا لعنك الله، لايلبث أن يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك) اختصار يصف حالتنا وواقعنا الفكري الحقيقي بدقة مؤلمة.. عموماً؛ فريق الوعاظ الممثل بخضر بن سند يتناول الإلحاد من واجهتين؛ الوعظ، والوصاية على العقل، وكلاهما منفر من الاستماع وعلى هذا الأساس يتم التعامل بسذاجة مع عقول شابة ثائرة مفكرة مبدعة؛ إما أن يستمعوا لوعظهم ونصحهم، وإلا وجب ردعهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات.. هذا الانغلاق الكهنوتي الخاضع لوحشية محاكم التفتيش وعبثية الاتباع القهري يستحيل أن يستميل الشباب فضلا عن أن يرضي طموحه المعرفي الكبير.. وأمام تحولات الوعي الحديثة قامت قيامة التيار الديني السطحي الذي لا زال يستصدر فتاوى التضليل والتفسيق، ويمارس غباءه لمصادرة دعوات الحرية الفكرية وإعمال العقل والإيمان بالذات، فدوره الذي طالما مارسه لاستلاب عقول الجماهير لأجل وجاهاته ومصالحه يعلم أنه أوشك على انتهاء صلاحيته، وصدمته الموجعة تكاد أن تصل بقهره منزلة الرمق الأخير. ولأن "أكبر عدو للمعرفة ليس الجهل وإنما هو وهم المعرفة" كما تقول حكمة العالم ستيفن هوكينغ، إلا أن هؤلاء الواهمين يظنون السكوت دائماً علامة الرضا، كونهم لم ينهلوا من معين حكمته المؤكدة ب"إن الأشخاص الهادئين يمتلكون أكثر العقول صخباً" فانبلاج نور التثوير العقلي قادم لا محالة وإن طال عبث واهمي المعرفة.. لذا يسند ل"الكهان" أو سدنة هياكل التجهيل أصل الخطيئة التجهيلية وتشظيها؛ فهم أعداء المعرفة، أعداء التسامح، أعداء التعايش، أعداء التعددية، أعداء الخيرية، وبالتالي؛ أعداء الإنسان.. أهم المفارقات المعرفية؛ وهي البحث عن البرهان "مهمة العقل الكبرى"، يقابله خنق للبرهان على أساس التفكير، فأهم الأسوار التي دمرت بفضل حركة الإصلاح الديني المسيحي بقيادة "مارتن لوثر" في القرن 16 هو ذلك الذي يدور على أن السلطة الدينية هي السلطة الوحيدة التي من حقها فهم النص الديني، وتدمير هذا السور يعني إعادة حق الإنسان لأن يفهم ويصل للبرهان بنفسه.. بالمقابل؛ يخنق البرهان عند المسلمين على يد الشهرزوري الذي يعتبر من أكبر أئمة الحديث، حين أفتى فقال: (وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر .. شرٌ، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر البرهان فقد أغنى الله عنه كل صحيح الذهن، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به". يسأل المفكر مراد وهبة في كتابه رباعية الديمقراطية: إذا كان الاشتغال بالبرهان زندقة فبماذا نشتغل؟ ويجيب: "نشتغل بألفاظ تغنينا عن البرهان، وهي على النحو الآتي: مؤامرة، خيانة وعمالة، فملاك الحقيقة المطلقة دائما ما يكون مُحَاوِرُهم؛ متآمراً أو خائناً أو عميلاً في حده الأدنى، أو زنديقاً وكافراً وملحداً في حده الأقصى.. ليصل بنا إلى صفات شخصية المتعصب،" الذي يشتهي انتصار عقيدته على عقيدة الآخرين، وهو الذي يشتهي، عند اللزوم، الاستعانة بالعنف لتدمير عقيدة هؤلاء، ولهذا يقال عن المتعصب إنه "دوغماطيقي" لفظ معرب يعني توهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وإذا تمادى الدوغماطيقي في هذا الوهم فإنه يدخل في "سبات دوغماطيقي" وهذا وصف للفيلسوف الألماني كانط الذي يقف عند قمة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر.. والسؤال الحاضر: فما التنوير؟ والجواب جواب كانط وهو"إعمال العقل من غير معونة الآخرين"، الأمر الذي يمكن معه القول بأنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، ومعنى ذلك أن لدى كل منا عقلين: "عقل يفكر ثم ينعكس على ذاته فيكون عقلاً آخر يفكر فيما يفكر فيه، وهذا العقل الثاني هو العقل الناقد". بذلك يضعنا الفيلسوف "وهبة" أمام مفتاح حضارة الشعوب المتمدنة؛ وهو التفكير في إطار النسبي لا المطلق؛ الذي أنتج نهضة العلوم والاختراعات والمكتشفات.. إنه الفرق الذي لازال يفارق بيننا وبينهم حتى حِين.