يعدّ الحنين إلى المكان من أغراض الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، يلجأ إليه الشاعر للتّعبير عن مشاعره نحو المكان وأهله، وقد عاش الشاعر الجاهلي حياته متنقِّلاً هنا وهناك، وما أن يستقر ويرمي حمله وعصا ترحاله، حتى يحزم أمتعته استعداداً لرحلة جديدة بحثاً عن الماء والكلأ، أو فرارًا من عدو غازٍ، وفي كل مرة يترك قلباً متفجراً بالأسى وعبرة تسبح في بحر أحزانه وذكرياته. تعذّبه آلام الهوى التي تتجدد مع كل رحلة، ما يخلّف في قلبه حسرةً وألماً بسبب الفراق، وكان في ترحاله يصوغ أعذب القصائد، ومثال هذا قول جرير وهو يتذكر دياراً يتمنى لو يستطيع العودة إليها: يعدّ الحنين إلى المكان من أغراض الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، يلجأ إليه الشاعر للتّعبير عن مشاعره نحو المكان وأهله، وقد عاش الشاعر الجاهلي حياته متنقِّلاً هنا وهناك، وما أن يستقر ويرمي حمله وعصا ترحاله، حتى يحزم أمتعته استعداداً لرحلة جديدة بحثاً عن الماء والكلأ، أو فرارًا من عدو غازٍ، وفي كل مرة يترك قلباً متفجراً بالأسى وعبرة تسبح في بحر أحزانه وذكرياته حيٍّ المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا وقد اصطلحوا على تسمية التعبير عن الحنين إلى المكان وأهله، بالوقوف على الأطلال فأغلب القصائد تتفق بوقفتها عليها، وفي مطلع كل قصيدة وقفة حافلة بالذكريات تُعْرَض ضمن شريط منسوج بالحزن والأسى، واستحضار طيف المحبوبة، فهو - أي الوقوف على الأطلال - حالة شعورية صادقة، ينقلها الشاعر من أعماقه عن تجربة، فيها لوعة وشوق ودعوة لبكاء، كما في قول امرئ القيس: قفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ هذا التراكم للعناصر المكانية وتراصها في المقدمة الطللية يعلن عن تأصل جذور المكان في كيان الشاعر، وحبه له؛ لأن التفاصيل تزيد من صورة الشيء، حتى يخيل للسامع أن الشاعر يصوغ من خلالها بيانا أو تقريرا عن رحلة ما سيقوم أو قام بها بين الأماكن، ولذلك نرى تحديدها وترتيبها وتسميتها بدقة ووضوح، حتى غدا الطلل عندئذ فضاءً تخييلياً ينطلق بناؤه من أشيائه المادية ومن استدعاء ذكرياته وماضيه، فيتماهى الفضاءان ويحيل كلٌ منهما على الآخر، بحثاً عن الوجود الأنثوي في الأشياء المتناثرة في المكان، ثم الوجود الاجتماعي وصولًا إلى الوجود الكوني. ومن الأمثلة الكثيرة لظهور شعر الحنين إلى نجد، يبرز بقوة الشعر المنسوب لمجنون ليلى، وكأنما اخترع بعضه ليحتضن مثل هذه المشاعر، شعر يحتفل بكل من المحبوبة ليلى، والمكان نجد، على السواء، ومن هذا : أَحِنُّ إلَى نَجْدٍ وَإنِّي لآيسٌ طوالَ الليالي مِنْ قُفُولٍ إلى نَجْدِ وإنْ يكُ لا ليلى ولا نجدَ فاعترفْ بهَجْرٍ إلى يومِ القيامةِ والوعدِ وإذا ما قصرنا القول على نجدٍ - مهوى أفئدة الشعراء لما فيها من سحر خاص - سنجدُ ما يمكن تسميته بشعرية المكان الذي يحوي جبالها ووديانها ومياهها، فضلا عن السحاب والمطر والبرق والرياح والنجوم والكواكب، ونباتات نجد من نخيل وغضا وأراك وأثل ورند، وشيح وكافور وريحان وخزامى وعرار وأقحوان وغيرها، ما يشكل مفردات جمالها، ويفجر ما فيها من دلالات ومعانٍ شعرية ارتبطت بخيالات الشعراء. يقول الصمة بن عبداله القشيري: أقول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمار تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ نَجْدٍ فما بَعْدَ العَشِيَّةِ منْ عَرَارِ ألا حبذا نفحاتُ نجدٍ ورَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ القِطَارِ وَأهْلُكَ إذْ يَحلُّ الحَيُّ نَجْداً وأنت على زمانك غير زار شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وما شَعَرْنَا بَأنْصَافٍ لَهُنَّ ولا سَرَارِ فأمّا ليلُهن فخيرُ ليلٍ وأطولُ ما يكونُ منَ النهارِ ومن هذا الأبيات التي قالها الشاعر العباسي؛ الشريف الرضي في الحنين إلى نجد: يا قلبُ ما أنتَ من نَجْدٍ وساكنهِ خلّفتَ نجدًا وراءَ المدلجِ الساري رَاحَتْ نَوَازِعُ مِنْ قَلْبي تُتَبّعُهُ عَلى بَقَايَا لُبَانَاتٍ وَأوْطَارِ أهْفُو إلى الرّكْبِ تَعلُو لي رِكابُهُمُ مِنَ الحِمَى في أُسَيحاقٍ وَأطْمَارِ تضوعُ أرواحُ نجدٍ من ثيابِهُمُ عندَ النزولِ لقربِ العهدِ بالدارِ يا رَاكِبَان ! قِفَا لي وَاقضِيا وَطَرِي وَخَبّرانيَ عَنْ نَجْدٍ بِأخْبَارِ هلْ روّضَتْ قاعةُ الوعساءِ أم مَطّرَتْ خميلةُ الطلحِ ذاتِ البانِ والغارِ؟ لقد صاغوا في حب نجد أجمل القصائد، وتغنوا بترابها وهوائها ومائها ونباتها وأيامها، فعكست تلك الغنائيات، والبكائيات مشاعرهم الصادقة وحنينهم الجارف وحالاتهم النفسية، ولذا مزجوا ذلك بأغراضهم المختلفة، ولاسيما الغزل الذي كانت أرضهم منبته، وطبيعتهم مسرحه، فكشفت عن ما حملته تلك الطبيعة من رموز كثيرة حفلت بها تجاربهم الشعرية . يصف الشاعر الصمة بن عبدالله القشيري، الحنين إلى صاحبته "ريّا" - التي شط مزارها وبعدت دارها - مقرونا بالحنين إلى نجد، بقوله : حننْتَ إلى ريَّا ونفسكَ باعدتْ مزارَكَ من ريَّا وشَعْباكما معَا فما حسنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً وتجزعَ أن داعي الصَّبابةِ أسمعَا قِفا ودِّعا نجداً ومن حلَّ بالحمَى وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا ألا ليسَ أيَّام الحمَى برواجعٍ عليك ولكن خلِّ عينيكَ تدمَعَا بكتْ عينيَ اليُسرَى فلمَّا زجرتُها عن الجهلِ بعد الحلْمِ أسبَلَتا معَا ورأى الشاعر ابن الفارض، وهو من شعراء العصر العباسي برقاً يلوح في الأفق، فتساءل أهو برق، أم ضياء مصباح في ربى نجد، أم وجه ليلى العامرية التي أسفرت فشع نورها في عتمة الليل؟ وقد دأب الشعراء على جعل ليلى رمزا للفتيات اللاتي يعشقونهن : أوَميضُ بَرْقٍ، بالأُبَيرِقِ، لاحا أمْ، في رُبَى نجدٍ، أرى مِصباحَا؟ أمْ تِلكَ ليلى العامرِيّةُ أسْفَرَتْ ليلاً فصيرتِ المساءَ صباحاً يا ساكنِي نَجدٍ، أما مِن رَحمَةٍ لأسيرِ إلفٍ لا يريدُ سراحاً هَلاّ بَعَثْتُمْ، لِلمَشُوقِ، تحيّةً في طيّ صافيَةِ الرّياحِ، رَواحا وهناك من ينسب الأبيات لقيس بن الملوح بسبب ورود اسم ليلى فيها. وهوى بعض الخلفاء أعرابية، فتزوجها ورحلت معه، فلم تحبّ العيش في المدن، مؤثرة حياة البداوة في صحراء نجد، ومما يُنسب إليها: وما ذنبُ أعرابية قذفتْ بها صُروف النّوى من حيث لم تكُ ظَنتِ؟ تمنّتْ أحاليبَ الرّعاءِ وخيمةً بنجدٍ فلم يُقضَ لها ما تمنتِ إذا ذَكرتْ ماءَ العُذيبِ وطيبَه وبردَ حصاه آخرَ الليلِ أنّتِ لها أنّةٌ وقتَ العشاءِ وأنّةٌ سُحيراً فلولا أنّتَاها لجُنتِ وتتصدر ريح الصبا كل المفردات الجميلة والموحية في الحنين إلى نجد، في شعر الشعراء الجاهليين وغيرهم من الإسلاميين حتى شعراء العصر الأندلسي، فلهم معها شأن. ولقد عُرفت رياح الصبا في الجزيرة العربية بأسماء عدة من بينها (صبا نجد)، وكانت عُرفت في الجاهلية والإسلام برياح أبي عقيل، وذلك نسبة إلى الشاعر العربي لبيد بن ربيعة العامري - وهو أحد أصحاب المعلقات السبع - ولما ظهر الإسلام أسلم وحسن إسلامه، وبعد أن قرأ القرآن ترك الشعر؛ ولما سئل عن ذلك أجاب: لقد أبدلني الله خيرا منه وهو القرآن. فما هي ريح الّصبا ..؟ "يُعَرّف العربُ هذه الريح بأنها التي تحنّ إلى الكعبة وتصبو إليها، ويكون مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، وهي ريح طيبة النسيم، قريبة من الاعتدال، فإن كان هبوبها في أول النهار فهي مائلة إلى البرد؛ لأنها تمرّ على مواضع باردة، فتبرد ببعد الشمس عنها بالليل؛ فتكون طيبة جدا إلا أن وقتها قصير؛ لأنّ شعاع الشمس يسوقها من خلفها؛ فإذا طلعت الشمس ساقها إلى قدامها؛ فلا تزال كذلك تمرّ قدام الشعاع والشمس تلطفها وتسخنها بحرها وضيائها حتى تصير معتدلة " . وقد أشارت كتب التفسير إلى أن ريح الصّبا هي التي سخرها الله لنبيه سليمان عليه السلام، غدوها شهر ورواحها شهر، وكذلك فهي الرياح التي نصر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته. ويُروى أنّه قال: (نُصِرْتُ بالصّبا، وأُهلكتْ عادٌ بالدبور) . وقد قيل في رياح الصبا إنها إذا استنشقها الإنسان المهموم، وخاصة في ساعات الصباح الأولى فإنه يشعر بعدها بالنشاط والحيوية وسعة الصدر والصبا والشباب، قال مجنون ليلى : أيا جَبَلَيْ نَعمانَ بالله خلّيا نسيمَ الصبا يَخْلُص إليّ نسيمُها فإن الصّبا ريحٌ اذا ما تَنَسّمت على نَفسِ مَهمُومٍ تجلّت همومها ونسبَ أبو علي القالي في آماليه هذين البيتين وغيرهما لامرأة من نجد " ... حدّثنا يحيى بن سعيد الأموي قال: تزوج رجل من أهل تهامة امرأةً من أهل نجد، فأخرجها إلى تهامة فلما أصابها حرّها قالت: ما فعلت ريحٌ كانت تأتينا ونحن بنجد يقال لها الصّبا؟ قال يحبسها عنك هذان الجبلان، فأنشدت : أيا جَبَلَيْ نَعمانَ بالله خلّيا نسيمَ الصبا يَخْلُص إليّ نسيمُها أجدْ بردَها أو تشفِ مني حرارةً على كبدٍ لم يبقَ إلا صميمُها فإن الصّبا ريحٌ اذا ما تَنَسّمت على نَفسِ مَهمُومٍ تجلّت همومُها " . ويناجي الشاعر ابن الدمينة صبا نجد، عندما رأى ورقاء تهتف على غصن من أغصان شجرة الآس (الرند )، بقوله : أَلا يا صَبا نَجدٍ مَتَى هِجتَ مِن نَجدِ لَقَد زَادَنِى مَسرَاكَ وَجداً عَلَى وَجدِى أإنْ هَتَفَت وَرقَاءُ فِى رَونَقِ الضُّحَى عَلَى فَنَنِ غَضِّ النَّباتِ مِنَ الرَّندِ بَكيتَ كَما يَبكِى الوَليدُ وَلَم تَكُن جَلِيداً وَاَبدَيتَ الَّذِى لَم تَكُن تُبدِى وَحَنَّت قَلُوصِى مِن عَدَانَ إِلى نَجدِ وَلَم يُنسِهَا أَوطَانَهَا قِدَمُ العَهدِ يقول أحد النقاد : " وفي شعرية الزمان النجدي نرى غرام النجديين بالليل وسراه، وولعهم بالمساء النجدي الذي يحمل سماته الخاصة، حيث مجالس السمر، تهزهم الصبا، وتنعش نفوسهم روائح الشيح، والقيصوم، والعرار، والريحان، والخزامى، فتستجيب ربة الشعر لنداء الطبيعة، أما في النهار فتنجلي فتنتها، وتسطع شمسها، وتتفتح الأفئدة على جنة وارفة الظلال، متفتحة الأزهار، كثيرة الوديان، فتثار القرائح، وتُنشد القصائد، آثروا الليل لسحره .. والربيع لطيب رائحته، وتنوع زهره، وتباين ألوانه.. لذا أكثر شعراؤهم من ذكره، ورددوه في أغراضهم المختلفة، ومزجوا الحنين إلى الزمان بالحنين إلى المكان ". أخيراً تلك هي نجد شامخة بتخليد الشعراء لها؛ سهلاً وجبلًا وماء وشجراً : فيا سائلي عن نجدٍ أو عنْ رياضِهِ فديتُك هذا بعضُ ما في رُبى نجْدِ