إننا نشعر بأهمية أن يترفع الدعاة عن بعض المشاكل والمصالح، حتى يتحول الداعية بممارسة فعلية إلى ضمير مجتمعه، يوقظ الغافل، وينبه الساهي، ويحرض باستمرار على فعل الخير، وطرد كل أسباب الكسل والترهل من الفضاء الاجتماعي. فلا سلطة معنوية لأي طرف في الفضاء الاجتماعي، إلا بتفوق أخلاقي وسلوكي يُخرج الداعية من دائرة الأنا الضيقة يحتل الداعية في الخريطة الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية موقعا متميزا ومتقدما، بوصفه مبلغا وهاديا وحاثا على الخير والالتزام بهدي الإسلام وقيمه ومبادئه. وبمقدار هذا الموقع الذي يحتله الداعية في مجتمعاتنا الإسلامية، يواجه تحديات وصعوبات تساهم في عرقلة دوره ووظيفته الدينية والاجتماعية. ولعل من أهم هذه التحديات والصعوبات التحديات الذاتية المتعلقة بالداعية سواء فيما يتعلق بعلمه وقدرته العلمية على تظهير وإيصال قيم الإسلام إلى أبناء المجتمع، أو ما يتعلق بسلوكه وأنماط علاقاته مع أبناء مجتمعه. ونود في هذا المقال، إبراز هذا الجانب من التحديات والصعوبات التي تواجه الداعية في مجتمعاتنا الإسلامية.. لأن هناك دعاة لا يحسنون التصرف مع الموقع الذي يتبوأونه، والسلطة المعنوية والاجتماعية التي يمتلكونها. فيتعاملون مع الناس بغلظة وشدة، وبعيدا عن تسامح الإسلام ورفقه. لذلك يتحول هذا الداعية بحكم سلوكه إلى منفر للناس وطارد لأبناء مجتمعه؛ لأن القرآن الكريم يبرز هذه الحقيقة ويقول (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، فالأخلاق السيئة بطبعها تكون منفرة للناس وطاردة لهم، وإذا ابتلي بها الداعية فإن انفضاض الناس سيكون أكثر وضوحا. لأن الناس جميعا ليسوا مجبرين على الاستماع أو الالتفاف حول داعية، لا يملك أخلاقا فاضلة ويتعامل مع الناس بعجرفة وغرور وتعال، فهو يتحدث من على منبر الدعوة عن أهمية الأخلاق وضرورة الالتزام على مستوى القول والفعل بمحاسنها، ولكنه على الصعيد العملي يناقض محاسن وفضائل الأخلاق.. ويتحدث عن العطاء وضرورته في تقدم الأمم والمجتمعات، ولكنه آخر المنضوين إلى قافلة العطاء في أحسن الفروض. يدعو إلى الألفة والمحبة وتحمل الأذى من الأهل والأصدقاء، ولكنه أول من يتعسف في ممارسة سلطته على أهله ومحيطه الاجتماعي. وصور المفارقات على هذا الصعيد ليست قليلة، ولكننا نعتقد أن هذه المفارقة هي من أهم التحديات التي تواجه الدعاة في كل المجتمعات الإسلامية؛ لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تعيب على أولئك النفر الذين يفصلون بين أقوالهم وأفعالهم، ويعمقون الفصام النكد بين القول والفعل . إذ يقول عز من قائل (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).. ولو تأملنا في سيرة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم سنجد أهمية الأخلاق الفاضلة والتحلي بالمناقبيات الأخلاقية، بوصفها من عوامل الدعوة الأساسية. وأن المطلوب دائما من كل الدعاة وأئمة المعرفة والتبليغ الديني الالتزام الدقيق والواعي بكل فضائل الأخلاق ومحاسنه. وإن الدعاة بدون الأخلاق الفاضلة على مستوى القول وعلى مستوى الممارسة والسلوك، سيفقدون الكثير من سلطتهم المعنوية مع الناس؛ لأن الناس بطبعهم يلتزمون بأقوال من يلتزم بمقتضيات ما يقول، وأي خلل بين القول والممارسة يكشفه الناس في حياة الداعية، فإنه على الصعيد العملي يقلل من حظوظ الداعية في التأثير والإقناع. وثمة صراعات ونزاعات علنية، تجري بين دعاة، لأسباب لايمكن أن نسميها إلا أسبابا دنيوية، وتعكس هذه النزاعات في بعض جوانبها تراجع مستوى الانضباط الأخلاقي في زمن الخصومة والعداء، بحيث يستخدم الدعاة تجاه بعضهم البعض كل ألوان التسقيط والتوهين. وعليه فإننا نشعر بأهمية أن يترفع الدعاة عن بعض المشاكل والمصالح، حتى يتحول الداعية بممارسة فعلية إلى ضمير مجتمعه، يوقظ الغافل، وينبه الساهي، ويحرض باستمرار على فعل الخير، وطرد كل أسباب الكسل والترهل من الفضاء الاجتماعي. فلا سلطة معنوية لأي طرف في الفضاء الاجتماعي، إلا بتفوق أخلاقي وسلوكي يُخرج الداعية من دائرة الأنا الضيقة واللهث وراء المصالح الزائلة. قيمة الداعية الحقيقية في علمه وأخلاقه، وأي تباين بينهما سيضعف من تأثير الداعية على محيطه ومجتمعه. ونحن إذ نؤكد ضرورة تطوير الالتزام الأخلاقي في مسيرة الدعاة، ندرك أن ثمة دعاة هم نموذج لما ندعو إليه، من حيث ترفعهم عن الصراعات العبثية، والتزامهم بفضائل الأخلاق في تعاملهم مع أبناء مجتمعهم بصرف النظر عن موقعهم الاجتماعي والاقتصادي. وهذه الحقيقة تدفعنا إلى ضرورة أن يهتم ويعتني الداعية بأمور وحقائق التزكية، لأن تزكية النفس من الشروط الأساسية لنجاح الداعية في مشروع دعوته لذلك نجد في العديد من الآيات القرآنية تلازما بين فعل التزكية، وفعل التعليم، وأن المطلوب دائما تكامل فعل التزكية مع فعل التعليم، إذ يقول تبارك وتعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)،(الجمعة الآية 2) .. وتعلمنا تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الإنسان وهو يغترف من علم الإسلام ومعارفه، عليه أيضا أن يلتفت إلى تزكية نفسه وتهذيبها وضبط نزعاتها الحيوانية.. فيا دعاة الإسلام تعاليم الدين الإسلامي الحنيف تحثنا وتدعونا إلى كره المعصية لا كره العاصي، وإلى كره الذنب لا كره المذنب، وإلى كره الفقر لا كره الفقير. سيبقى العاصي والمذنب فضاء للهداية والإرشاد ودعوته إلى التوبة والتخلص باقتناع عن ذنوبه ومعاصيه . وسيبقى الفقير محل الدعم والإسناد والمساعدة، هذا ما تعلمنا إياه تعاليم الإسلام، أما كره وبغض العاصي بفعل معصيته، فإنه يؤدي إلى إصرار العاصي على معصيته. والمطلوب دائما فك الارتباط بين الذنب والمذنب، وبين العاصي والمعصية. الذنوب هي محل امتعاض وطرد من الفضاء الاجتماعي. أما المذنب فهو محل الرفق والرأفة لنقوده بأخلاقنا للتوبة عن ذنوبه. المعاصي ينبغي أن نحاصرها ونجفف منابعها للحؤول دون اتساعها وانتشارها، أما العاصي فينبغي أن نستمر في دعوته وإرشاده للإقلاع عن معاصيه. والداعية الذي يقوده كرهه للمعصية إلى كره العاصي، فإنه يقع في مطب طرد الناس بسلوكه من رحمة الله سبحانه وتعالى. والداعية الذي يحارب المذنب دون الذنب، فإنه يساهم بوعي أو بدون وعي في إدخال المجتمع في أتون مشاكل وأزمات عبثية، تزيد من ضعف المجتمع وتآكله الداخلي. وعليه فإذا أراد الداعية في مجتمعاتنا الإسلامية، أن يعزز دوره الديني والاجتماعي، فعليه التخلص من تحدياته الذاتية، وعلى رأسها الفصام بين القول والفعل، والتحلي بفضائل الأخلاق، وينطلق في مشروع دعوته، من محبته للناس، لكي يأخذ بأيديهم برفق نحو الخير والصلاح بعيدا عن الشطط وأخذ الناس بالقسر والقهر.