لا يُعيد التاريخ نفسه في أحداثه الكبرى فقط، وإنما هو مثل ذلك قد يفعل مع المواقف الاجتماعية والإنسانية الأخرى المختلفة، والتي بدورها قد تعترض الأفراد العاديين في حياتهم اليومية وشؤونهم الشخصية - بما تتضمنه هذه المواقف من مشكلات خاصة أو هموم نفسية أو علائق معاشية -. ان بغيت الشح درب الطيب عيا حالفٍ مارد نفسي للمهونه والحياة البشرية في عمومها مختلفة في تنوعها، ومتشابهة في تكررها، والأخيرة تتأكد حد التطابق في السلالات البشرية الواحدة، وهي في الجنس العربي تظهر بصورة أكثر وضوحاً؛ وذلك لاحتباس أجياله قروناً متطاولة في بيئتهم الصحراوية، وأيضاً لطباعهم الخاصة الفريدة، وقلة خلطتهم بالثقافات الأخرى، وكذلك لاعتزازهم الكبير بقيمهم الاجتماعية مع حرصهم الشديد على توريثها لأجيالهم اللاحقة، وهو – أي التوريث - أخص ما يكون عندهم في تلك الصفات المتعلقة بالأخلاق مثل الكرم والشجاعة وتوقير الوالدين واحترام الجار.. الخ وعطفاً على ما سبق؛ فإنّ صفة الكرم بالمال هي صفة تكاد أن تكون مخصوصة في العرب دون غيرهم من الأمم الأخرى، فإقراء الضيف، وحمل الكَل، وصلة الرحم، والإعانة على نوائب الدهر، كلها كانت بعض مصارف المال العربي في الجاهلية والإسلام، وأمر العربي معها كان بين ثلاث: إما أن يطغى بعطائه فيصعد راقياً منازل ودرجات الكرم: بدءاً من الجود وتوسطاً بالسخاء ووصولاً إلى الإيثار؛ ليشتهر من بعدئذ في المجتمع أمره، ويرتفع بذلك ذكره، ومن ثم يتفق الجميع على حمده وشكره، وإما - وهي الحالة الثانية - أن يؤدي الواجب الاجتماعي، فيكون فيه على خط السواء، لا يحط إلى ما دونه، ولا يرتفع لما يعلوه، وعندها يكون كفافاً لا له ولا عليه، فلا يُمدح على واجب قدمه ولا يُذم على منقصة تأخر لها، وأما الثالثة الأخيرة فإنها التواري عن الواجبات، والاستخفاء عن اللازمات، ضناً في ذلك بالمال، وزهداً بثناء المقال، فيسمى عندئذ بخيلاً ، تلتصق به المذمة، وتستصغره العين، ويلحقه العتاب. ولأن الأشياء (بضدها) قد تلتقي، فإن العتب قد يلحق أيضاً بالكريم المعطاء، والسخي الجواد؛ إما رأفة بحاله، أو طمعاً بماله – إن كان المعاتب من أهل بيته - ، أو اعتقاداً بسرَفه، أو تضرراً من فعله لأي سبب من الأسباب. ولذا فإن حاتم الطائي – مضرب المثل في الجود والكرم - لم يسلم من هذا العتب الداخلي والعذل الأسري ، وهو الأمر الذي قد تصدى له بفعله وقوله، فأما فعله فكان استمرار كرمه وتتابع بذله، وأما قوله فإنه في أبياته المتفرقة التي قد حفظها الزمان في هذا الشأن، منها قوله: وعاذلة قامت تلومني كأني إذا أعطيت مالي أضيمها أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ولا مخلد النفس الشحيحة لومها وكذلك قوله يدفع لوم وعتاب زوجته ( ماوية ) على إتلافه المال في الكرم والجود في أبيات طويلة، نورد منها: أَمَاوِيّ ! إنَّ المالَ غَادٍ ورائِحٌ وَيَبْقَى مِنَ المالِ الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ أَمَاوِيّ ! إنِّي لا أَقُولُ لِسَائِلٍ إذِا جَاءَ يوماً حَلَّ في مالِنَا نَزْرُ أَمَاوِيّ ! ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الفَتَى إذا حَشْرَجَتْ نَفْسٌ وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ وعوداً إلى بدء حديثنا عن تشابه الحوادث الشخصية وتكررها على اختلاف الأزمنة والأمكنة، فإن بين ناظرينا هاهنا مناسبتين شعريتين قد تناظرتا سبباً وتماثلتا شعراً واختلفتا زمناً، أما الأولى فإنها للشاعر الأموي المقنع الكندي، وأما الأخرى فإنها للشاعر الشعبي عبدالله بن هذال القريفة المطيري. ولعلنا نضع كل قصيدة على حدة، ومن ثم نذكر التعليق عليهما سوية: - القصيدة الأولى: هي الدالية الشهيرة للمقنع الكندي والتي قلما خلا كتاب أدبي من تضمينها والاستشهاد بها؛ وذلك لسمو موضوعها، وقوة أبياتها، وتماسك ديباجتها. وهي قصيدة طويلة نجتزئ منها هذه الأبيات؛ إذ يكفي من القلادة ما قد أحاط بالعنق: يُعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تُكسبهم حمدا ألم ير قومي كيف أوسر مرة وأعسر حتى تبلغ العُسرة الجهدا فما زادني الإقتار منهم تقربا ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا أسدُّ به ما قد أخلّوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غييّ هويت لهم رشدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف ما دام نازلا وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا القصيدة الثانية : للشاعر الشعبي عبدالله القريفة المطيري، وهي قصيدة نبطية قد طارت شهرتها في الآفاق ، فصارت – بحق - من الأمثال السائرة على الألسن، ومن كنوز التراث الشعبي وجواهره، وذلك لحرارة عاطفتها، وصدق لغتها، وإشراقة لفظها، وفيها يقول : ياجماعه كيف مافيكم حميا كيف صياح الضحى ماتسمعونه من يعاوني على ربعٍ أهنيّا من بغى درب المراجل يمنعونه المراجل ما تهيا هاسويا كود من عض النواجذ في سنونه ان بغيت الشح درب الطيب عيا حالفٍ مارد نفسي للمهونه ماعليّه من منقّلة الحكّيا كان باب الرزق منهم يقطعونه وان بغيت الهون ساس الطيب عيّا حالفٍ ما أرِد نفسي بالمهونه حالف ماجوز من جية هويا دام بيت الله خلقه يدهلونه ماعلينا من مساريد القفيا كان حبل الرزق منهم يقطعونه من لحومي الدانيه شفت الجفيا من بغى درب الشكاله يبهتونه التماثل والتناظر بين القصيدتين : لعل التماثل والتناظر بين هاتين القصيدتين ومناسبتيهما قد يتجاوز – لولا الوزن والقافية - حد المقاربة الشعرية إلى مستوى المعارضة الشعرية ؛ إذ نجده واضحاً في كلا النصين شكلاً ومضموناً ومناسبة، فمن هذا بأن الباعث والسبب لهذين النصين كانا متطابقين تماماً، فالشاعران قد تعرضا لموقف شخصي وضغط بيئي وامتحانٍ أخلاقي، تمثل بالعذل الاجتماعي الذي كان حاضراً بقوة، يُلح عليهما بعنف، ويضج في آذانهما بصخب، ويخنق أنفاسهما بشدة، وهو – أي العذل الاجتماعي – لم يأت من الأباعد وإنما من الأقارب، ومصدره كان كرم وسخاء الشاعرين، في حين أن باعثه كان هو الرفق من قبيلتيهما بهما، والشفقة بحالهما، والرأفة بظروفهما، وفي المقابل لهذا اللوم وتلكم الرأفة كان ثمة صمود أخلاقي مثير من هذين الشاعرين، فكان أن بادلا ذويهما بعتب مضاد ( عتب متبادل )، من خلال قصيدتين رائعتين يشرحان فيهما الأسباب والدوافع التي قد ألجأتهما لسخاء اليد والخفة بالمال وعدم الخوف من الفقر، ويظهران في أبياتهما – أيضاً - توجعهما الشديد من لوم قرابتهما، ومن الغيبة والنمنمات اللسانية التي كانت تكال لهما في ظهورهما، وكذلك يعلنان في الوقت نفسه عدم اكتراثهما بكل هذا في جناب الكرم وأداء الواجب، وهو ما قد خلده التاريخ عنهما ( قصةً وقصيدة وخُلقاً )؛ فتناقله الرواة وحفظه المتلقون واستطعمه المتذوقون.