عاشت الجماهير الرياضية السعودية أسبوعا او اكثر من التحضير النفسي والإعلامي لنهائي كأس سمو ولي العهد بين النصر والهلال. ودخل البريد السعودي مجال بيع التذاكر في تفكير إبداعي وظيفي بعد الموت البطيء للبريد الورقي، وبعد نجاح في بيع سندات الاضاحي. فالمدرجات اكتظت بالجمهور والملايين جلست لساعات خلف شاشات التلفزيون ومع شبكات التواصل الاجتماعي. ومع كل هذا الزخم الرياضي الكبير الا اننا لا نزال في مصاف الدول التي لم توظف الرياضة بما هو ابعد من النادي والملعب. ومع التميز الذي حققناه على مستوى كرة القدم لا يوجد لدينا شيء من التراكم المعرفي الذي يسعفنا عند البحث عن عوامل التقدم او مسببات الفشل. ببساطة الجماهير التي احتلت جميع مقاعد مباراة كأس ولي العهد هي المؤشر الذي نود ان ننطلق منه للاستشراف الرياضي السعودي. ماذا نريد من ازدهار الرياضة السعودية؟ والإجابة عن هذا السؤال يجب ان تكون على شكل خارطة مؤسسية كبيرة، بمعنى ان يتولى كل قطاع من قطاعات الدولة الإجابة عنه. فالموضوع لم يعد ترفيها لصبية يلعبون بجلد منفوخ. استراليا على سبيل المثال قامت بدراسات استشرافية لتطوير القطاع الرياضي الجماعي والفردي. وجاءت نتائج الدراسة التي تمت بالتعاون بين الهيئة الحكومية المعنية بالرياضة وشركة استرالية لدراسات السوق والعلاقات العامة على شكل تلك الخارطة الكبيرة للفرص الغائبة من الرياضة. وانطلقت أيضا من قاعدة اكبر وهي ان افراد المجتمع يجب ان تتاح لهم ممارسة الرياضة لينعموا بالصحة وليس الاهتمام بالرياضة ليبقى الناس على المدرجات او خلف الشاشات لتترهل أجسادهم اكثر. وعندما تترهل اجسام الجماهير من سيدفع الثمن؟ انها الدولة ومن الموازنة العامة في الطبابة والرعاية الصحية اللاحقة او التأهيل. كما سيدفعها المواطن أيضا للحصول على جسد صحي خال من الاسقام نتيجة ممارسة الرياضة بالمشاهدة. وتقول نتائج الدراسة الاسترالية مثل غيرها من الدراسات العالمية المشابهة ان الرياضة صناعة وطنية كبرى لأنها تساعد على تعزيز الصحة العامة وزيادة الحركة السياحية والحد من الجريمة وضبط استخدام المنشطات وبالتالي المخدرات، وزيادة التنافس وخلق نجوم المجتمع، وتحفيز الشباب على الابداع والثقة بالنفس. وهنا لا يرتبط رسم الخارطة الاستشرافية للرياضة بالمؤسسات الخدمية فقط وانما على المؤسسات البحثية واجب ربما هو الأهم. فكثيرا ما خلقنا صورة قاصرة تحت مسمى "يكفي تنظير"، وهي صورة أبعدت الى حد ما الكثير من المؤسسات البحثية عن القيام بواجبها. والسبب ان الصورة الذهنية للاكاديمي هي صورة المنظّر البعيد عن ارض الواقع، وصورة الرياضة والمنتسبين لها هي "طقها والحقها" في مشهد يقلل كل طرف من الآخر. والنتيجة اننا ننطلق في عالم الصناعة الرياضية بلا اطر نظرية نستشرف بها مستقبلنا الرياضي. بل ان نظام الاحتراف الذي ادخله التجار على الرياضة عزز "الانا" الفردية على الروح الجماعية، بل وجعل هناك مقارنة بين الدخل على المستوى في التمثيل الوطني مع الدخل على مستوى الأندية. ودخل التلفزيون في صناعة النجم الرياضي خارج وداخل الملعب ما سلب هؤلاء النجوم من البعد الإنساني في التعامل مع الجمهور. وهي نجومية مؤقتة تموت مع النجم بعد خروجه من الملاعب فينساه المجتمع ويبقى حاضرا مع استحضار التاريخ فقط. موت للعلاقات الإنسانية والوفاء الاجتماعي لغياب الاستشراف المؤسسي للعناية بالمجتمع من مزالق نجوميتهم ومن هاوية مستقبلهم. ومع موجة التعصب التي باتت تعصف بنا من كل جانب نحتاج استشرافا آخر لحلها. يقول الراحل نيلسون مانديلا: لم يولد الانسان متعصباً ضد الآخر ولكنه تعلم هذا السلوك من مجتمع يؤمن بالتعصب. وطالما انه تعلم التعصب فعلينا جعل المؤسسات (مدارس وملاعب) بيئات لتعلم التعايش والاحترام. وما يدور حاليا في شبكات التواصل الاجتماعي هو بذرة جديدة لتشويه المجتمع وإضعاف وحدته وربما تشويهه بالتعصب لعقيدته وتراثه. "فمن شب نار الفتنة كان وقوداً لها.