قديماً قيل (لا يوجد أبخل من الشعراء) بمعنى أن الشاعر قلما يحذف بيتاً من الشعر قاله ولو كان فيه نظر، أو كان ثقيلاً على السمع، فهو يبخل به؛ لأنه من ضمن إبداعه، ثم إن كثيراً من الشعراء لا يراجعون قصائدهم بعد إبداعها، بل ينشرونها مباشرة، وتسير بين الناس، ولو تأنى الشاعر في الإذاعة والنشر لكان أقدر الناس على ملاحظة البيت (العائب) أو الثقيل؛ لأن الشاعر هو ناقد شعره الأول. ومدرسة (عبيد الشعر بقيادة زهير بن أبي سلمى) هي مدرسة المراجعة والتنقيح والتدقيق وهو ما لا يتوافر لدى كثير من الشعراء. إذن ليس المقصود ببخل الشعراء المعنى المادي، بل المقصود هو بخلهم بحذف بيت (عائب) من قصيدة جميلة، أو (قصيدة كاملة رديئة) من (ديوان رائع) والكمال لله وحده، فمن بحث عن عيب فسوف يجده هنا أو هناك.. ونحن لا نبحث عن عيوب ولكن نحاول تقديم ملاحظات نقدية على أبيات وردت في قصائد جميلة ولم تكن تلك الأبيات بمستوى القصيدة، وأليكم بعض الأمثلة: (جبل الريان) لجرير بَانَ الخَليطُ، وَلَوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا، وقطعوا منْ حبالِ الوصلِ أقرانا حَيِّ المَنَازِلَ إذْ لا نَبْتَغي بَدَلاً بِالدارِ داراً، وَلا الجِيرَانِ جِيرَانَا قَدْ كنْتُ في أثَرِ الأظْعانِ ذا طَرَبٍ مروعاً منْ حذارِ البينِ محزانا لوْ تعلمينَ الذي نلقى أويتِ لنا أوْ تَسْمَعِينَ إلى ذي العرْشِ شكوَانَا كصاحبِ الموجِ إذْ مالتْ سفينتهُ يدعو إلى اللهِ أسراراً وإعلانا يا أيّهَا الرّاكِبُ المُزْجي مَطيّتَهُ، بَلِّغْ تَحِيّتَنَا، لُقّيتَ حُمْلانَا بلغْ رسائلَ عنا خفَّ محملها عَلى قَلائِصَ لمْ يَحْمِلْنَ حِيرَانَا تُهدي السّلامَ لأهلِ الغَوْرِ من مَلَحٍ، هَيْهَاتَ مِنْ مَلَحٍ بالغَوْرِ مُهْدانَا أحببْ إلىّ بذاكَ الجزعِ منزلة ً بالطلحِ طلحاً وبالأعطانِ أعطانا يا ليتَ ذا القلبَ لاقى منْ يعللهُ أو ساقياً فسقاهُ اليومَ سلوانا ما كنتُ أولَ مشتاقٍ أخي طربٍ هَاجَتْ لَهُ غَدَوَاتُ البَينِ أحْزَانَا يا أمَّ عمرو جزاكَ اللهُ مغفرة ً رُدّي عَلَيّ فُؤادي كالّذي كانَا ألستِ أحسنَ منْ يمشي على قدمٍ يا أملحَ الناسِ كلَّ الناسِ إنساناً لقدْ كتمتُ الهوى حتى تهيمنى لا أستطيعُ لهذا الحبَّ كتمانا (كادَ الهوى يومَ سلمانينَ يقتلني وَكَادَ يَقْتُلُني يَوْماً بِبَيْدَانَا وَكَادَ يَوْمَ لِوَى حَوّاء يَقْتُلُني لوْ كُنتُ من زَفَرَاتِ البَينِ قُرْحانَا) كيفَ التّلاقي وَلا بالقَيظِ مَحضَرُكُم مِنّا قَرِيبٌ، وَلا مَبْداكِ مَبْدَانَا؟ إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ، قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ، وهنَّ أضعفُ خلقْ اللهِ أركانا ماذا لقيتُ منَ الأظعانِ يومَ قنى ً يتبعنَ مغترباً بالبينِ ظعانا أتبعتهمْ مقلةٌ انسانها غرقٌ هلْ ما ترى تاركٌ للعينْ انسانا يا حبذا جبلُ الريانِ منْ جبلٍ وَحَبّذا ساكِنُ الرّيّانِ مَنْ كَانَا وَحَبّذا نَفَحَاتٌ مِنْ يَمَانِية ٍ تأتيكَ من قبلَ الريانِ أحيانا هلَ يرجعنَّ وليسَ الدهرُ مرتجعاً عيشٌ بها طالما احلولي وما لانا أزْمانَ يَدعُونَني الشّيطانَ من غزَلي، وكنَّ يهوينني إذْ كنتُ شيطانا) الله يرحمك يا عود شراها لي من «واحد» جابها للسوق جالبها جَفَختْ وهم لا يجفَخونَ بها بهِم شِيَمٌ على الحَسَبِ الأغَرّ دَلائِلُ فقول جرير: (كادَ الهوى يومَ سلمانينَ يقتلني وَكَادَ يَقْتُلُني يَوْماً بِبَيْدَانَا وَكَادَ يَوْمَ لِوَى حَوّاء يَقْتُلُني لوْ كُنتُ من زَفَرَاتِ البَينِ قُرْحانَا) عليه ملاحظة وهي تكرار أن الموت كاد يقتله أكثر من مرة حتى إن اعرابياً لما سمع ذلك قال ساخراً: (هذا يزعم أنه لن يموت فقد تركه الموت ثلاث مرات)! (يالله وانا طالبك حمرا هوى بالي) للشاعر فراج بن ريفه القحطاني يالله وانا طالبك حمراً هوى بالي لا روّح الجيش طفّاحٍ جنايبها لا روّح الجيش حاديها أشهب اللالي لاهي تورد وسيعٍ صدر راكبها اللي على كورها واللي بالحبالي واللي على المردفه واللي بغاربها لا روّحت مع سباريت الخلا الخالي كنّ الذيابه تنهّش من ترايبها تزها السفايف وتزها الخرج وحبالي ومجربه بالسرا فالليل صاحبها (الله يرحمك ياعود شرا هالي من واحد جابها للسوق جالبها) فهذه القصيدة من أجمل القصائد وهي طويلة ومعروفة ورغم جمالها نجد أن البيت الذي وضعناه بين قوسين فيه ملاحظة بلاغية وهو قول الشاعر: (من واحد جابها للسوق جالبها).. فلو قال: (من جاهل جابها للسوق جالبها) لكان أبلغ لأن كلمة (واحد) لا تدل على الأصالة والقيمة النادرة للمجلوب كما أن التعبير كله (من واحد جابها للسوق جالبها) تحصيل حاصل لكن وضع كلمة (جاهل) مكان (واحد) يدل على أصالة المجلوب وقيمته النادرة وذلك ما لا يدركه الجاهل. (والمتنبي) ولا يكاد يوجد شاعر تخلو قصائده كلها من العيوب فالمتنبي في قصيدته المشهورة لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ أقفَرْتِ أنْتِ وهنّ منكِ أواهِلُ ورد فيها هذا البيت الذي فيه عيوب واضحة وهو قوله: (جَفَختْ وهم لا يجفَخونَ بها بهِمْ شِيَمٌ على الحَسَبِ الأغَرّ دَلائِلُ) فلفظة (جفخت) منكرة و ثقيلة و هو يقصد (فخرت) فلو قال (فخرت وهم لا يفخرون بها شيم على الحسب الأغر دلائل) لكان جرس البيت أجمل ودلالة الكلمة أوضح فإن كلمة (جفخت) توحي بالانتفاخ الأجوف، وفي البيت عيب آخر وهو تقارب الضمائر وبعد العائد في قوله (بها) والتقاء الضميرين (بها بهم) ثقيل ومضطرب كما لا يخفى.. قارن بين هذا البيت الثقيل وبين البيت الثاني في نفس القصيدة: (ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ) فهذا البيت جميل بليغ خالٍ من التعقيد وجرسه الموسيقي متناغم داخل البيت بعكس بيت (جفخت)!!