مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى والذكريات صدى السنين الحاكي (أحمد شوقي) قضيت الهوى لي به والأوطار يوم انا حظيظ وميعاد اتلع الجيد لي وافي (ابن لعبون) * ذكريات الأيام السعيدة تزيدنا سعادة، وتجعلنا نعيش تلك الأيام من جديد، ونتأمل في وجهها المليح، ونستحضر من التفاصيل الصغيرة ما رأيناه عابرين، ونحصل على كنز جديد نستطيع الآن - في وحدتنا - التدقيق في نفاسته، والتفكير في قيمته، والاحساس بالابتهاج لأننا عشنا تلك الأيام، وصنعنا تلك الأحداث.. قد يقال: إن ذلك يثير من الآلام أكثر مما يثير من المسرات، باعتبار ذلك ماض تولى، والجواب أن كل لذَّة في الحياة مصحوبة ببعض الألم، حتى ونحن في قلب الحدث السعيد - قبل أن يصبح ذكرى - في أعماقنا خوفٌ على انقضاء أوقات السعادة، فإن أيام السرور قصار.. ومع هذا، وفي وحدة الإنسان، فمن الخير له أن يسترجع الأيام السعيدة، ويتمعن في تفاصيلها الدقيقة، وكأنه يرى الأشخاص، ويسمع الأصوات، ويحس بأضواء الابتهاج، لأن هذا رصيدٌ من أرصدة السعادة، يتم الرجوع له وقت الحاجة، فإن السعادة تتراكم كالمال في البنك، وبنك السعادة يحتاج في الاستفادة منه إلى غزارة في الخيال، وتوفيق في التفكير، أما نسيان رصيد السعادة وعدم الانفاق معه على أيام الوحدة والجدب، فإن ذلك يشبه البخيل الذي يكنز الأموال ولا ينفقها مهما ساءت الأحوال. @ @ @ والعرب من أكثر الأمم استرجاعاً للماضي، واجتراراً للذكريات، سواء في وقوفهم على الأطلال، وتذكرهم منازل الأحباب، ومرابع اللقاء والأشواق، أوفي اعتزازهم بماضيهم العريق، وتذكرهم لأبطالهم وبطولاتهم، وتخليدها في أشعارهم وترديدها في مجالسهم وأسمارهم، موثقين لها بالأشخاص والأشعار، شاعرين بالنشوة والنخوة والانتصار.. @ @ @ للشاعر جرير نسيب رقيق لو خَلُصَ له وتخلَّص من مهاجاة الفرزدق وثمانين شاعر معه، لكان من أجمل شعراء الغزل، وأغزر شعراء النسيب، وهو الذي يقول ما معناه: "لو فرغت للنسيب لأبكيت العجوز على شبابها". وله عدد من القصائد الجميلة في الحب وفي ذكريات الحب، ومنها قصيدته المشهورة في جبل الريان وذكرياته، وهو جبل يقع بالقرب من الدوادمي، وحوله غدران مياه رائعة، وربيع أخضر، وهنالك عاش جرير شبابه، وأحبَّ وأعجب بالجميلات من حوله، وقد تذكر ذلك الجبل وأيامه الحلوة فقال: "يا حبذا جبلُ الرَّيان من جبل وحبذا ساكن الرَّيان من كانا حي المنازل إذ لا نبتغي بدلا بالدار داراً ولا الجيران جيرانا يا أم عمرو جزاك الله مغفرة رُدّي عليَّ فؤادي مثلما كانا ألست أحسن من يمشي على قدم يا أملح الناس.. كل الناس.. إنسانا لقد كتمت الهوى حتى تهيّمني لا أستطيع لهذا الحب كتمانا كيف التلاقي ولا بالقيظ محضركم منا قريباً، ولا مءبداك مبدانا؟ إن العيونَ التي في طرءفها حَوَرٌ قتلننا ثم لم يُحءيين قتلانا يصرعنَ ذا اللب حتى لا حراك به وهُنَّ أضعف خلق الله إنسانا طار الفؤاد مع الخود التي طرقتء في النوم، طيبة الأعطاف مءبدانا بينا ترانا كأنا مالكونَ لها ياليتها صدّقت بالحق رؤيانا! @ @ @ يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكنُ الريان من كانا وحبذا نَفَحاتٌ من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا هل يرجعنّ وليس الدهرُ مرءتجعًاً عيشٌ بها طالما احلولي ومالانا؟ أزمانَ يدعونني الشيطان من غَزَلي وكنَّ يهوينني إذ كنتُ شيطانا! @ @ @ إن الشعر يحرر عواطف الشاعر.. يخلصه من الاحباط والكبت.. ويعيد له أمجاده - ولو كانت غرامية - وقد فقد القدرة على صنع الأمجاد وهو شيخ.. إن الذكريات تحييه وتُسلّيه.. والشعر يحرره.. وكلُّ إنسان - ولو لم يكن شاعراً - حين يسترجع ذكرياته الجميلة، ويدور شريطها السينمائي في رأسه، ويتذكر ماذا فعل وماذا قال وماذا حصل وما مرَّ به من جمال.. تهمس نفسه بالشعر.. ويحَلق خياله تحليق الشعراء حين يطيرون فوق السحاب.. وبهذا فإن ذكريات الأيام الجميلة حتى تسترجع بمودة نعيشها من جديد.. ذكريات أجمل محبوبة ومن ذكريات شاعرنا الشعبي المبدع محمد بن لعبون مع معشوقته (مي): "قضيت الهوى لي به والأوطار يوم انا حظيظ وميعاد اتلع الجيد لي وافي اجاذب رداها يوم ثوبي من الهوى جديد ولا احتاجت حواشيه للرافي ولا شرب كاس اللوم من بات له خلي الغواني مع هل السفح ميلاف تجود التماني له بالاحباب والصفا وان زعل صرف البين يشرب من الصافي ليالي سنا ليلة وجيه سوافر تنيره ومصباح ابلج الصبح به طافي وبرق سرى به كن عالي رفيفه ايدين العذارى تعتنيهن بالاوصاف رفيع السنا في مسبل الذيل كالدجى دجن الطها ملتج الاعجاز رجّاف تحيل الخبارى بعد ما اسقى لمورقه لضعون (مي) به ربيع ومصياف ولا يعرف زهر تخالف برنقه إلى طاح به شذر على مي ورعاف" (الرعاف: حلي تلبسه محبوبته مي على شكل فصوص ملونة كأنه الزهر فهو يشتبه به)! "وبيت كما وصف الغمامه رواقه لي عند أهلها فيه معنى ومطاف جنوبه شمال في لظى القيظ بارد وشتاه وان هبت شمال فهو دافي خنين الشذا ماهر بتني كلابه إلى هربن مجفي الاحباب غريافي فلا زلت مختاره على كل منزل إلى عاد شفيّ فيه مَّياس الاعطاف نديمي غزال في ذراه و... تقعد لي الصنطور واقعد لها القاف" (الصنطور: آلة موسيقية). "ضحوك اللمي مدموجة الساق كالقنا هضوم الحشاء مرتج الارداف مهياف إلى قلت هاتي حاجة لي ودنَّقَتء تنثر لها ظليل ساف على ساف على مي جيد الريم والعين عينها والخد كنه بدر الانصاف بوصاف نشا نشوة البردى غضيض قوامه غصن ما هب به طايف غاف"