العنوان بيت شعر ذكره البلاغيون بعد بيت آخر، استشهاداً على استخدام النداء للزجر: بالله قل لي يا فلان ولي أقول ولي أسائل.. أتريد في السبعين ما قد كنت في العشرين فاعل؟! والشاهد عندنا هو أن بعض المسنين يريدون أن يكونوا كالشباب! وهذا موجود في النساء والرجال من المتصابين والمتصابيات! والأصعب حين يصدق المسن نفسه فيتزوج وهو في السبعين شابة في العشرين! وينسى أن العاشق العجوز كالجندي العجوز كلاهما في المعركة يخور! وعلى النقيض هناك من ينهار في شيخوخته لأن روحه انهارت قبل جسده، وفقد معنوياته.. وكلا الأمرين مذموم! المسن العاقل يتعايش مع وضعه بمحبة وقبول وتفاؤل، ويمارس حياته بشكل عادي لا يكثر من الشكوى ولا يستغرب ضعف الجسد بل يستبدل الشكوى بطاعة الله عز وجل ثم بالعمل على تقوية جسده وصيانة صحته بالسبل الممكنة من الغذاء المناسب والرياضة الملائمة والنشاط الذهني والصحبة الطيبة وعمل الخير والتفاؤل بالحياة.. قال جبر بن سيار يخاطب ابن دواس ويشكو الشيخوخة (من قصيدة طويلة) باح قلبي من السرّ مكنونه واضح الشيب ابغى تحنونه مبتدا الشيب عيب اتى بالعصا جملة البيض عمداً يشينونه صار قدراً رخيصاً وعقلاً نقيصاً مثل شنّ هل المال يرمونه يا ابن دواس واحلو عصر الشباب يوم كانت مشاحيه وزمونه فرد عليه صديقه ابن دواس من قصيدة طويلة: يا ابن سيار جا منك رسم شديد واجب عند مثلي يعرفونه صاحب عندنا له مقام رفيع كل ربعه أذا جا يخدمونه انت كن عارف لا فجاك الزمان ان شيمتك بالعمر مصيونه لو بقى فيك شيب فلا منك عيب عندنا غاية القصد مضمونه فاعتبر يا ابن سيار فيمن مضى بالزمان الذي راح وقرونه وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أنَّ ما في الوجه منه حراب عارف منزلي في زمان المشيب ليت عصر الصبا كان يثنونه وأبوالطيب المتنبي من النوع الثائر على شيخوخته، غير المعترف بآثارها العميقة فيه، أو القانع بظروفها الطبيعية: وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه حراب لها ظفر إن كل ظفر أعده وناب إذا لم يبق في الفم ناب يغير مني الدهر ما شاء غيرها وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب ويروي بعضهم البيت الأول بلفظ (خراب) بالخاء المنقوطة بدل (حراب) بالحاء المهملة في قوله: (ولو أن ما في الوجه منه حراب) والصواب هو أنها بالحاء المهملة جمع (حربة) فكأن الشيب الأبيض في وجهه يحاربه لكنه صامد يزداد قوة على ما يدَّعي، هذا ما يتسق مع نفسية المتنبي المعتد دائماً، ولا يتصور أن يصف المتنبي وجهه بأنه (خراب)! فإن له في نفسه رأياً عظيماً! ورغم أنه يعترف بشيخوخة جسده إلا أنه يقول إن روحه شابة على طول (يشيب الدهر وهي ما شابت و(أبلغ أقصى العمر وهي كعابُ) أي (في العشرين) وأقل! * على أي حال قصيدة المتنبي في الفخر بنفسه وتحدّي ضعف الجسد واشتعال الشيب وعجز القدرة عن الرغبة، فهو لا يعترف بهذا العجز، لأن روحه شابة على طول! ليس المتنبي وحده من يعتقد أن روحه شابة مهما ضعف جسمه وشاب، أكثر البشر هكذا، ولا نتحدث هنا عن (مراهقة متأخرة) ولكن عن (حقيقة إنسانية) وهي أن الروح لا تشيب مع الجسم بل هي في الأغلب تتألق مع طول التجارب، يستثنى من هذا من يصاب بعلل نفسية مثل (اكتئاب الشيخوخة) فهو يضرب الروح أشد من ضربات الزمن للجسد، على أن (الاكتئاب) إذا أصاب شاباً قضى على روحه وطموحه وربما جسده ما لم يعالج بمهارة، فأكثر حالات الانتحار سببها الاكتئاب.. وعوداً للمتنبي فإنه يقول في هذه القصيدة: وإني لنجم تهتدي صحبتي به إذا حال من دون النجوم سحاب! غني عن الأوطان لا يستخفني إلى بلد سافرت عنه إياب وأصدى فلا أبدي إلى الماء حاجة وللشمس فوق اليعملات لعاب وللخود مني ساعة ثم بيننا فلاة إلى غير اللقاء تجاب وما العشق إلا غرة وطماعة يعرض قلب نفسه فيصاب تركنا لأطراف القنا كل شهوة فليس له إلا بهن لعاب أعزُّ مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب والبيت الأخير صحيح خاصة شطرها الأخير، بشرط ألا يصبح الإنسان - شيخاً كان أم في عز الشباب - (دودة كتب) لا يخرج ولا يجتمع مع الناس ولا يمارس الرياضة ولا يستمتع بالطبيعة ويشم الهواء الطلق، حتى في (الشيخوخة) لابد من الرياضة المتناسبة مع العمر (ولعلها للشيخ ألزم وأهم منها للشاب، لأن الشاب كثير الحركة أصلاً، بينما يجنح أكثر الشيوخ للسكون والقعود، وهذا يضعف الجسد أكثر، ومثلنا الشعبي يقول (من ترك المشي تركه المشي) أي أنه بعد فترة قد لا يستطيع المشي أصلاً.. والمتنبي يقول: (وللخود مني ساعة..) وأعتقد أن هذه طبيعته في شبابه قبل شيخوخته، فقد أخذه طموحه من الخود وغير الخود.. يقال إنه أحب (خولة الحمدانية) أخت سيف الدولة، وقد يكون هذا صحيحاً لأنه رثاها بشكل ينم عن روح عاشق، وذكرها ووصفها بقلب مغرم خافق، ولكنه - مع ذلك إن صح - لم يحب إلا نفسه، وقد يكون حبه لخولة جزءاً من طموحه وعشقه للمجد، وها هو ذا يقدم لنا رأيه في العشق: وما العشق إلا غرة وطماعة يعرِّض قلب نفسه فيصاب وهنا حبه لخولة أخت الأمير الشهير وسليلة المجد العريق لعله من باب (الطمع) في استكمال المجد. على أي حال فإن ما يخص موضوعنا هو أن (المتنبي) نموذج للثائر على شيخوخته، المنكر لضعفه، فهو يزعم أن كل تسليته وفرحه ولعبه هو في الحروب ومواجهة الخصوم رغم أنه قد شاب وضعف جسده.. ومن الخير للشيخ أن يتفاءل دائماً وألا يسخط مما أصابه من ضعف الجسد وتناقص الحواس وقدوم بعض الأمراض، بل يعتبر ذلك أمراً طبيعياً يقبله بصدر رحب لكنه يعمل على تخفيف آثاره قدر الاستطاعة بالعلاج والغذاء المناسب والرياضة والاقبال على الحياة والرفقة الطيبة، وقبل ذلك وبعده باللجوء إلى الله عز وجل في كل أموره، وجعل الذكر والدعاء والايمان جليسه وأنيسه فإن الايمان العميق بالله العلي العظيم يمنح الإنسان أخطر فرصة يتصورها بشر وهي الخلود في جنات النعيم برحمة أرحم الراحمين.