يأتي الشيخ الدكتور أحمد أمين على رأس السلف المعاصرين الذين نادوا بضرورة تدشين منهج آخر للحكم على الأحاديث، بدلا من الاعتماد الكلي على منهج جرح وتعديل الرواة، والذي أوصد المحدثون الباب أمام أي محاولة قديمة تتخطاه إلى منهج آخر يكون ألصق ببيئة الحديث والمحدث معا. هذا المنهج الذي تبناه الشيخ أحمد أمين، ودعا إلى الأخذ به، هو المنهج النقدي التاريخي الذي يركز على إعادة زرع (مضامين) الأحاديث في البيئة /البيئات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ليُرى إن كان ثمة توافق أو تنافر مع ثوابت ومتغيرات طبائع العمران البشري في البيئة / البيئات التي قيل فيها الحديث و/أوعاش فيها الراوي. تقوم منهجية الشيخ الدكتور أحمد أمين في دعوته إلى تبني المنهج التاريخي لتقييم متون الأحاديث على عدة خطوات، فهو يعترف، بادئ ذي بدئ، بدور الحديث في الإسلام بقوله في كتابه (فجر الإسلام:فصل الحديث):" للحديث قيمة كبرى في الدين تلي مرتبة القرآن، فكثير من آيات القرآن جاءت مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء قول رسول الله، أو عمله فبيّنها أو قيدها أو خصصها". وبعد ذلك، ينتقل إلى الكلام عن ظروف تدوين الحديث مقارنة بظروف تدوين القرآن، ليقول في نفس الفصل:" لم يدون الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما دُوِّن القرآن، فإنا نرى أن رسول الله اتخذ كتبة للوحي يكتبون آيات القرآن عند نزولها، ولكنه لم يتخذ كتبة يكتبون عنه ما ينطق به من غير القرآن. بل وجدنا أحاديث تنهى عن تدوين الأحاديث". والأحاديث التي يستدل بها الشيخ أمين على النهي عن تدوين الحديث، أحاديث صحاح، وهي مع وجود ما يعارضها، إلا أننا نجد أنها أصرح في تبنيها للنهي. من تلك الأحاديث، حديث أبي سعيد الخدري في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً:" استأذنَّا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكتب ما سمعنا فلم يأذن لنا". ولأن الحديث لم يدون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدى ذلك إلى نشوء ما يعرف في مصادرنا بظاهرة (الوضع)، وهو يعني وضع أحاديث من (عنديات) رواتها، ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأسباب ودواع مختلفة. فبالإضافة إلى الأسباب الأولية كعدم تدوين الحديث في كتاب خاص في العصور الأولى، واكتفاء الرواة بالاعتماد على الذاكرة، وصعوبة حصر كل ما قاله الرسول، أو فعله خلال ثلاث وعشرين سنة من بدء الوحي إلى حين وفاته، هناك أيضا "الخصومات السياسية، والخلافات الكلامية والفقهية، ومتابعة بعض من يتسمون بسمة العلم لهوى للأمراء والخلفاء، يضعون لهم ما يعجبهم، رغبة في ما في أيديهم، وتساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب". ويظهر أن الوضع بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أن مما يغلب على الظن، كما يقول الشيخ أمين، أن حديث:" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، قيل لحادثة زُوِّر فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم. والسؤال هو:إذا كانت حال (الوضع) هكذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف ستكون حال الوضع بعد وفاته؟ يجيب الشيخ أمين عن هذا السؤال بقوله: "بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان الكذب عليه أسهل، وتحقيق الخبر عنه أصعب". ذلك أنه " لما فتحت الفتوح ودخل في الإسلام من لا يحصى كثرة من الأمم المفتوحة من فارسي ورومي وبربري ومصري وسوري، وكان من هؤلاء من لم يتجاوز إيمانُهم حناجرَهم، كثر الوضع كثرة مزعجة، وسال الوادي حتى طم على القرى". ويستشهد الشيخ: أحمد أمين لاستشراء ظاهرة (الوضع) بقصة (عبدالكريم بن أبي العوجاء) الوضاع الذي قال حين أُخِذَ ليُضرب عنقه: "لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحَرِّم فيها وأُحلل". ولهذا تحرز السلف من الرواية بعد أن شاع الوضع. ومن أقوى شواهد هذا التحرز ما جاء عن ابن عباس، كما جاء في صحيح مسلم، أنه قال:" إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يُكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه". ويتحدث الشيخ أمين عن أثر الخصومات السياسية على وضع الأحاديث كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:"إن الخصومة بين علي وأبي بكر، وبين علي ومعاوية، وبين ابن الزبير وعبدالملك، ثم بين الأمويين والعباسيين، كانت سببا لوضع كثير من الأحاديث. وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: واعلم أن أصل الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو حديث السطل، وحديث الرمانة، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك. فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو (لو كنت متخذا خليلا)، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب، فإنه كان لعلي، فقلبته البكرية إلى أبي بكر. فلما رأت الشيعة ما وضعت البكرية، أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد، وحديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بمكة، وأحاديث مكذوبة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم. فقابلتهم البكرية بمطاعن في علي وولديه، فنسبوه تارة إلى ضعف العقل، وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حب الدنيا والحرص عليها. ولقد كان الفريقان في غنية عما اجترحاه واكتسباه، فلقد كان في فضائل علي الثابتة الصحيحة، وفضائل أبي بكر المحققة المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما". وثمة أحاديث أخرى، لا تشك وأنت تقرأها أنها وُضِعتْ لتأييد الأمويين أو العباسيين، كالحديث الذي قيل في معاوية:"اللهم قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب"، وكحديث عمرو بن العاص الذي قال فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين". وينتهي الفقيه المالكي أبو عبدالله بن عرفة إلى القول:"إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعِلتْ في عهد بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يُرْغِمون به أنوف بني هاشم". ويبدو أن الوضاعين، كما يذكر الشيخ أمين، لم يكونوا يرون الوضع نقيصة خلقية ولا معرة دينية، فكان بعضهم يقول: نحن نضع للرسول ولا نضع عليه. وكثير من الأحاديث الموضوعة تولى كبرها بعض الصالحين الذين رأوا أنهم يُرَغِّبون الناس بوضع واختلاق الأحاديث. وفي هذا الصدد، يروي الإمام مسلم عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه أنه قال:" لم نر الصالحين في شيء أكذب منه في الحديث". وفسر مسلم هذا الأمر بأن الكذب يجري على ألسنتهم لكنهم لا يتعمدون الكذب. وبعضهم، كما يقول الشيخ أمين، سليم النية يجمع كل ما عثر عليه أو أتاه على أنه صحيح، وهو في ذاته صادق، فيحدّث بما سمع، فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه، دون أن ينتبهوا إلى ضعف منهجيته. ومثال ذلك، ما رواه الخطيب البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) من أن عبدالله بن المبارك يوصف بأنه صدوق اللسان، لكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر. ومن الوضاعين من كانوا يكتفون بأن يكون الكلام حقا في ذاته، فينسبونه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك يروي النووي في شرح مسلم قول محمد بن سعيد الدمشقي:" إذا كان كلاما حسنا، لم أر بأساً أن أجعل له إسنادا". أمام هذه الطوام، يعود الشيخ أمين ليؤكد ضرورة إعمال منهج النقد التاريخي للحكم على متون الأحاديث، بدلا من التركيز على جرح وتعديل الرواة الذي لم يستطع غلق الباب أمام (وضع) الأحاديث واختلاقها. ولقد تجلت دعوته واضحة في النقد الذي وجهه إلى المحدثين في كتابه الآخر(ضحى الإسلام) من أنهم، أي المحدثين، لم يتوسعوا كثيرا في النقد الداخلي، فلم يتعرضوا لمتن الحديث، هل ينطبق على الواقع أم لا. كذلك، لم يتعرضوا كثيرا لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، فلم يشككوا كثيرا في أحاديث تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية، ولم يدرسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتماشى مع البيئة التي حُكي أنه قيل فيها أم لا، ولم يدرسوا بيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع، وهكذا". ويقول في موضع آخر:" ولو اتجهوا (أي المحدثين) هذا الاتجاه (= منهج النقد التاريخي)، وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول ( أي نقد السند)، لانكشفت أحاديث رُويَتْ في مدح الأشخاص والقبائل والأمم والأماكن، تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها، أو شغلت حيزا كبيرا من كتب الحديث". يقول الأستاذ عبدالمجيد الشرفي في كتابه (الإسلام والحداثة) :"وهكذا ركز أحمد أمين على النواحي التي قصر فيها المحدثون، وبرهن على استيعابه لمقتضيات المنهج التاريخي في نقد النصوص، وتجاوزه للعقبة النفسية التي تمنع عادة من تسليط هذا المنهج على النصوص التي اكتسبت في الضمير الإسلامي صبغة مقدسة"..